إنه التيه

23 أكتوبر 2016
(عرفات يغادر رام االله، 2004)
+ الخط -

تُسعف مخيلة ساردة بالاستناد إلى بعض التحليل النفسي في نزع الرتابة والملل عن السياسة المحكومة سلفاً بمحصلة صراع القوى فيها وعليها، فما الذي يدفع إلى طرح السؤال بقوّة عمن سيخلف محمود عبّاس، الذي انتهت ولايته "المفترضة" منذ أكثر من تسع سنوات، وهو ما حدث في مرات سابقة لم تفض إلى إيجاد بديل مقبول دولياً وإقليمياً.

خلافة عبّاس تحيلنا إلى ثلاث محطات بارزة أُشبعت نقاشاً بين الفلسطينيين والعرب؛ وأصدقائهم وخصومهم على السواء، لكنها ربما تحتاج بعضاً من التخييل لسدّ بعض الفراغات التي لا يلتفت إليها السياسي عادة.

الأولى في 1 تموز/ يوليو 1994؛ حين عاد الراحل ياسر عرفات إلى غزّة بموجب "اتفافية أوسلو" ليحكم ما سمّي بـ "مناطق الحكم الذاتي"؛ الرجل الذي قضى أكثر من ثلاثين عاماً يقود الثورة متنقلاً بين العواصم، متخفياً في أكثر من مكان، ملتبسَاً في الفهم في أكثر من موضع، عنيداً صبوراً في صراعاته، مبتسماً في خسارته يبحث عن ثغرة يعود من خلالها، ومبتسماً في انتصاره يعيد النظر في حساباته الداخلية وترتيب علاقاته مع المقرّبين والأبعدين، هذا الرجل كان يمشي ببطء إلى نهاية وشيكة يراها ولا يعترف بها.

منذ ذلك التاريخ؛ فَقَد تدريجياً أبو عمار أبرز ممكنات قيادته وكاريزماته: التنقّل الدائم بين الأمكنة وأمزجتها، والتخفّي عن الإخوة والأعداء، والتموضع في المناطق الملتبسة لينجو من عاصفة تلو أخرى، حتى أنه فقد أثر ابتسامته المعهودة، وأصبحت مألوفة غير ذات وقع ومعنى، بمعنى أكثر دقة وقسوة فإن الأب قد وهن وبهت دوره وهو لا يزال على قيد الحياة بين أبنائه.

ولمّا أراد التشبث بروح أخيرة عبر تسليح كتائب الأقصى في الانتفاضة الثالثة، كانت محاولة يائسة في تغيير موازين قوى وحسابات هو أكثر من يعرفها، غير أن إحدى الهزائم التي ربما غابت عن باله، هي تسلّل التعب والغضب والضعف إلى صورته، بحيث بدا في أواخرها على نحو يناقض سيرة حياته: على كرسي العجلات وبغير بزته العسكرية ومن دون كوفية وبلا ابتسامة!

الثانية في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، رحَل عرفات فعلياً، وخلال شهرين استقرّت محصلة حسابات الخارج على اختيار محمود عبّاس رئيساً للسلطة، وبعيداً عن لغة السياسة تكون الاستعارة الأدبية عن أبٍ لم يُقتل (مجازياً فرواية تسميمه هي الأرجح)، لكن جرى إضعافه على مرأى أبنائه جميعاً، طوال عقدٍ من الزمن، إلى درجة قد لا يعود لواقعة تسلّم أبو مازن مقاليد الرئاسة أي معنى ودلالة في 9 كانون الثاني/ يناير، سوى أن الأب الضعيف الذي كان على كرسي العجلات وبغير بزته العسكرية وبلا ابتسامة قد سُمح له بالنهوض على حالته لـ"يحكم" شعباً لا يزال تحت الاحتلال.

لو أقدم أحد الأبناء على قتل الأب، ديمتري أو سميردياكوف (المشتبهين بقتل والدهما في رواية "الإخوة كارامازوف" لديستويفسكي)، لكنّا إزاء مشهد مختلف بالكامل. مشهد يتحكّم فيه بدرجة أساسية صراع حقيقي على توّرث الأب – لا لعبة خارجية يجري تسويق نتائجها- لا الخوف من نهايته؛ لذلك كانت عقد الذنب مركّبة عند الأولاد الورثة، إذ أضيفت إليها عقد الذنب تجاه الآباء الإقليميين والدوليين، وهو بالضرورة يعكس اختلاطاً في الانتماء لا في الأنساب.

ربما لا تكون المحطة الثالثة موّقعة بتاريخ محدّد، فهي مستمرة منذ أحد عشر عاماً، ويجدر هنا التنويه إلى أن الخلافات داخل منظمّة التحرير الفلسطينية بدأت منذ تأسيسها والصراع عليها بين محاور الإقليم وعواصم التأثير الدولي تكرّس أيضاً منذ تلك اللحظة. لكن عرفات/ الأب استطاع أن يفرض بأدواته (المتعدّدة) قراراً وسياسات وتكنيكات موحّدة وملزمة للأغلبية، وتدور في فلك معارضتها الأقلية.

بتوقيع "أوسلو" بدأت النهاية، بالأب يضعف، ثم بحكْم الأب الضعيف، وأخيراً بالتشتّت والانقسام بين آباء لا أحد منهم يسكن فلسطين ولا فلسطين تسكنه، وعليه يمكن استبدال نقاش خلافة عباس بتخيّل مشهد الركض واللهاث لعدّائين يتسابقون من غير مضمار سباق ولا نهاية معرّفة؛ إنه التيه.


* صحافي وكاتب أردني / عمّان