شهادة عن قرب

05 ابريل 2016
الفنان الأميركي أليس كنت ستودارد (Getty)
+ الخط -
شاءت الظروف أن أكون أقرب مرافق، ترجمةً وتحريرًا وتقديمًا، لإصدار الطبعات العربية من ثلاثية المؤرّخ شلومو ساند التي فنّـد من خلالها عدّة مسلمات صهيونية صنميّة كاذبة بواسطة إخضاعها إلى محاكمة تاريخية متأنية وصارمة. 

ولدواعي الإيجاز، سأستعيد شذرات من مقدمات ثلاث سبق أن كتبتها لدى طرح تلك الطبعات للقارئ العربيّ.
ضمت ثلاثية ساند على التوالي الكتب الآتية: "اختراع الشعب اليهودي" و"اختراع أرض إسرائيل" و"كيف لم أعد يهوديًا؟".
في الكتاب الأول انصبّ جهد المؤلّـف على تفكيك أراجيف متعلقة بإعادة كتابة وقائع الماضي اليهودي من طرف "كتّاب أكفاء" عكفوا على تجميع شظايا ذاكرة يهودية - مسيانية واستعانوا بخيالهم المجنّح كي يختلقوا، بواسطة هذه الشظايا، شجرة أنساب متسلسلة لـ"الشعب اليهودي".
وفي الكتاب الثاني انصرف جهده نحو تفكيك أراجيف مكملـة متعلقة بتوكيد صلة هذا "الشعب اليهودي" المختلـق بفلسطين بعد أن تم اختراع اسم لها هو "أرض إسرائيل" في سبيل إثبات تلك الصلة، وجرى استخدام هذا الاسم كأداة توجيه ورافعة للتَخيُّل الجغرافي بشأن الاستيطان الصهيوني منذ أن بدأ قبل أكثر من مئة عام. وفي سياق ذلك كله قام الكاتب بتقويض أسطورة كون "أرض إسرائيل" الوطن التاريخي لـ"الشعب اليهودي"، وأثبت أن الحركة الصهيونية هي التي سرقت هذا المصطلح ("أرض إسرائيل") وهو ديني في جوهره وحولته إلى مصطلح جيو سياسي، وبموجبه جعلت تلك "الأرض" وطن اليهود، منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

وفي الكتاب الثالث سلسل ساند العوامل والأسباب التي جعلته يقرّر أن يكفّ عن كونه يهوديًا مشيرًا على وجه الخصوص إلى أن التزوير وعدم الاستقامة والتبجّح صفات محفورة عميقًا في جميع أشكال تعريف اليهودية في "دولة إسرائيل"، وإلى أن تعريف الدولة بـأنها "يهودية"، عوضًا عن تعريفها بأنها "إسرائيلية"، ليس غير ديموقراطي فحسب، وإنما أيضًا يشكل خطرًا على مُجرّد وجودها.
في هذا الإطار ركّز الكاتب على أن ثمة علاقة وثيقة بين تعريف اليهود كـ "إثنوس" أو كشعب ـ عرق أبدي وبين سياسة إسرائيل، سواء حيال مواطنيها الذين لا يعتبرون يهودًا، أو حيال مهاجري عمل قدموا إليها يائسين من شواطئ بعيدة، أو - بالتأكيد - حيال جيرانها مسلوبي الحقوق الواقعين تحت وطأة احتلالها سنة 1967 المستمر منذ نحو خمسين عامًا. 

ولفت الكاتب إلى أن من الصعب التنكر لحقيقة جارحة ومؤلمة فحواها أن تنمية هوية يهودية جوهرانية لا دينية، تشجع على التمسك بمواقف استعراقية (متمحورة حول العرق)، عنصرية أو شبه عنصرية، لدى أوساط عديدة واسعة، في إسرائيل وفي خارجها على حد سواء.

بالإضافة إلى هذا ثمة علاقة وطيدة بين فهم اليهودية كهوية أبدية ولاتاريخانية وبين الدعم الجارف الذي يبديه جزء كبير ممن يعتبرون أنفسهم يهودًا لسياسة الإقصاء البنيوية، التي ينطوي عليها مجرد تعريف دولة إسرائيل لذاتها، ولسلطة الاحتلال المتواصل في مناطقها الكولونيالية.

من خلال الكتاب الثالث رمى ساند أيضًا إلى دحض مفهوم اليهودية العلمانية الذي حاولت الصهيونية أن تكرّسه، إلى جانب تفنيد مفهوم الانتماء الإثني الواحد لليهود. في هذا الإطار شدّد على أنه لا وجود قطّ لـ"ثقافة يهودية علمانية"، نظرًا إلى غياب أي لغة مشتركة أو نمط حياة مشترك بين اليهود العلمانيين كافة، وفي ضوء انعدام أي أعمال فنية أو أدبية يهودية علمانية، على الرغم من أنه بالإمكان التعرّف على ملامح ثقافة علمانية يهودية في فكر كل من كارل ماركس وألبرت أينشتاين وسيغموند فرويد مثلًا، غير أنّ هؤلاء عبّروا عن هذه العلمانية انطلاقًا من ثقافاتهم الخاصّة، ولم يُرسوا أي أسس لـ"فكر يهودي علماني". كما يرى أنّ التوفيق ما بين العلمانية والانتماء إلى اليهودية أمرٌ مستحيل، وقد ينطبق هذا الأمر على سائر الأديان كذلك.

واستعرض ساند أصول الديانة اليهودية والجذور التاريخية لـ"رُهاب اليهود" في أوروبا، ثم توقف عند الممارسات العنصرية في إسرائيل ضدّ الفلسطينيين على وجه الخصوص، وعند موجات التهويد التي لا تنبع من إيمان ديني راسخ، بل تهدف إلى الوقوف في وجه الفلسطينيين لأنّ "المرء كي يكون يهوديًّا في إسرائيل، عليه قبل أي شيء ألّا يكون عربيًّا".

وفي نهاية المطاف طرح ساند تساؤلًا بصيغة العارف: في ظل ظروف كهذه، كيف يستطيع شخصٌ ليس مؤمنًا متديّنًا، بل إنسانوي ديموقراطي أو ليبرالي يتمتّع بحدٍّ أدنى من النزاهة الأخلاقية، أن يستمرّ بتعريف نفسه بأنّه يهودي؟
تتعدّى المساهمة المعرفية الرئيسة لهذه الثلاثية غاية نبش الماضي، لكونها ترسي أحد مداميك فهم صيرورة الحاضر.
المساهمون