كيدهنّ "الأجنبي"

26 يوليو 2016
لوحة للفنان الفرنسي دوران(Getty)
+ الخط -

ثمة بين أهل السياسة وأهل القلم أكثر من أمر مشترك، منها على الأقل: اللغة كأداة، والمريدين كدلالة على المكانة، والرغبة في التأثير، وذاك التوق للخلود عن طريق "الأعمال". وهي كلها خلا الأولى، ترتج وتهز في أحايين كثيرة على إيقاع "التفكير الرغائبي"، أي تلك الطريقة المخاتلة الحميمة في خلق الوهم الشخصي.
اللغة أداة المثقف كتابةً قبل أي شيء آخر، وهي نفسها أداة السياسي لكن شفاهة. وإذ تتنزه البلاغة بين أهل القلم وأهل السياسة، تصير في الحالة الأولى دلالة رفعة واقتدار وسمو، أما في الحالة الثانية فتنوس بخجل بين قطبين: خطيب مفوّه – وهذا وصف غير دقيق – ووقح. بسط الأمر على هذا النحو أفضل، إذ إن المثقف بألف ولام التعريف، أحسن صنعًا بما لا يقاس من السياسي. ثمة خونة بالطبع من كليهما، لكن المقام هنا ليس لهذا المقال.
المقام هنا، لرئيسة وزراء بريطانيا الجديدة: تيريزا ماي، وطريقتها في الكلام والمخاطبة في أول جلسة استجواب لها. تعقد هذه الجلسة العلنية في البرلمان. في منتصف القاعة الخشبية المهيبة، طاولة كبيرة، تفصل بين صفوف الحكومة وصفوف المعارضة. المكان الأكثر تمييزًا أمام الطاولة لرئيسة الوزراء تيريزا من جهة وزعيم "المعارضة" رئيس حزب العمال جيرمي كوربين من الجهة الأخرى. لا مجال للخطأ بين اليمين واليسار، أو بين حزب المحافظين وحزب العمال. قد يقف بعض النواب عند السؤال أو عند الرد، لكنهم، يعبّرون بصوت عال بـ نعم أو لا، وبالضحك والقهقهة وأصوات الاستهجان. ثمة رئيس مجلس العموم الذي يدير الجلسة، وإليه يتوجه "الزعيمان": تيريزا وجيرمي كوربين بـ"السيد الرئيس" Mr the Speaker، كلما زاد "ضجيج" النواب عند حديث "زعيم" خصومهم. يستحق الأمر المشاهدة فعلًا، إذ من طرف خفيّ ما سيفلت تعليق خفيف: لا غرابة أن المسرحي الأعظم وليم شكسبير وُلد في هذه البلاد. فالفعل المسرحي بما فيه تعقيد وجمال و"بلاغة"، يسري في دماء الإنكليز التي توصف عادة بالباردة.
في الجلسة العلنية، سأل كوربين تيريزا عما ستفعله بخصوص العاملين والموظفين الذين لا يتمتعون بضمانة استمرار العمل، ها هنا "تألقت تيريزا مسرحيًا"، إن جاز التعبير، وردّت بوضوح وثبات من دون أن تغفل إتقان حركة الجسد، إذ رفعت إصبعها كدلالة على تفطنها
لأمر أخير، ومالت بجسدها واضعة مرفقها على الطاولة عند الجملة الأخيرة، فبدت متحدية أشبه بالمتحدين في صراع العضلات. قالت تيريزا مصوبة عينيها بوضوح باتجاه خصمها: "أنا مهتمة بما أشار إليه عن وضع بعض العاملين الذين قد لا يملكون ضمانة استمرار عملهم، وقد يكون مدراؤهم "خلوًا من المبادئ"، وأشك بوجود أعضاء عدة في صفوف المعارضة من الذين "يألفون" مديرًا مماثلًا. مدير لا يصغي للعاملين؟ مدير يطلب من العاملين مضاعفة حجم العمل؟ بل ربما مدير يستغل القواعد خدمةً لمسيرته المهنية؟ أيذكّر هذا بشخص محدد؟". كانت القهقات من صفوف المحافظين تتعالى عند كل جملة تأنّت السيدة البريطانية الممتلئة بنفسها في لفظها بصوت واثق. استغلت تيريزا "البلاغة" لتراوغ في الجواب ردًا على الوقائع التي سردها كوربين.
هي بشعرها الرمادي القصير، وبدلتها الكحلية الكلاسيكية، والأهم العقد اللؤلؤي الضخم حول رقبتها النحيلة. لعل العقد أراد إيصال رسالة ما، عن امتزاج اللين بالصلابة، وعن "التضخيم" ولفت النظر. وبقطع النظر عن الرسالة المرجوة، فإن طريقة تيريزا في الكلام، أدّت الرسالة على أكمل وجه في ما يخص بلاغة السياسي التي تنوس دومًا بين الخطيب المفوّه والوقح.
في ما مضى، كان ثمة امرأة أخرى، ابتدعت "أسلوبًا" سياسيًا في مخاطبة خصومها وأعدائها من طريق الحلي. إن أحدًا لن ينسى مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية الولايات المتحدة خلال رئاسة بيل كلينتون، ومشابك ملابسها، أي "البروشات" التي كانت تزين بها كتفها عند كل لقاء حاسم مع العدو والخصم.
كرّست أولبرايت كتابًا عن الأمر بعنوان: "اقرأ مشبكي"، Read My Pins، ونظّم معرض لـ بروشاتها أيضًا. وصرّحت بأن فكرة استعمال المشبك كأسلوب سياسي، جاءت إليها عند حرب الخليج (1991)، حيث وصفها صحافي عراقي بـ"ثعبان لا مثيل له". وتحضيرًا للقاء مع الوفد العراقي اختارت مشبكًا ذهبيًا على شكل ثعبان. فسرّت رسالتها بعد ذاك: "أردت إيصال رسالة مزدوجة: تحدي الخصم، والتزين بـ رمز حرب استقلال الولايات المتحدة: الثعبان".
صحيح كان الثعبان يزين إحدى الرايات، (الرايات تتغيّر بتواتر في الحروب والثورات)، ومن تحته خُطت جملة: "لا تمشِ فوقي". المعنى كله في هذه الجملة.

المساهمون