الإيطالي الساحر

01 ديسمبر 2014
+ الخط -
قليلة جدًا هي الكتب التي بحثت في النصّ القرآني وفقًا للنظريّات البلاغية الحديثة. خضعت الكتب المقدّسة الأخرى إلى مناهج حداثية تحلّل استراتيجية الخطاب الديني، وتأثيره في النفوس، ونظرتْ في طرق بناء النصّ وتركيبته، لتعرف كيف يتناسلُ المعنى رويدًا رويدًا إلى قلوب المؤمنين، ولتعرف الأسلوب البلاغي وعلاقته بالكتابات المعاصرة للنصّ المقدّس والسابقة عليه، لتقارن من الناحية اللغوية بينها.

صحيح أن عبد القاهر الجرجاني كتب "دلائل الإعجاز"، لكن ذلك كانَ ضمن سياقٍ مختلف، يقع في منزلة تأسيس علم البلاغة العربي. وغالبية من كتبَ بعده في تراثنا، سار على الطريق التي عبّدها الجرجاني. ووفقًا لتأريخ النقد العربي، يظهر أن القرن السابع للهجرة، كان الأوج الذي من بعده تراجع النقد عامّة لدى العرب القدامى.

وكان السكاكي في كتابه "مفتاح العلوم" مثالًا لإقفال مرحلة برمتها، لكأنّه حصيلة جامعة لجهود السابقين. في هذا الكتاب ذي الطابع الموسوعي نجد في الفصل الخاصّ بعلم العَروض العربي مقتطفات من آيات قرآنية، يُخضعها السكاكي لميزان الإيقاع الذهبي، فيجد فيها البحور الستة عشر، لا بصورتها التامّة بالطبع، بل بصورتها مجزوءة ومشطورة ومنهوكة. وما كان ليتمكّن السكاكي من عملٍ مماثِل لولا أن العَروضيين أدخلوا على تعريف العلم النبيل، ميزةً غريبة تقول باشتراط القصد في قول الشعر، وذلك نتيجةً لتلك النقاشات الشهيرة التي كانتْ تدور حول العلاقة بين الشعر والقرآن. 

ويبدو أن وضع نقاط في آيات النصّ القرآني، يوحي بحسّ إيقاعي، فالتسمية بحد ذاتها؛ "فصول الآي" تستعيرُ من علم العروض أحد مصطلحاته: الفصل، الذي يقصد به تمامًا تلك التفعيلة الواقعة في نهاية الشطر الأوّل، لدورها في الفصل بين الشطرين. وكان هذا الموضوع محلّ اهتمام كبير لمعروف الرصافي في كتابه الشهير "الشخصيّة المحمدية"، حيث أفردَ فصلًا كاملًا للبحث فيه.

ولعلّه واحد من البحوث النادرة حقًّا التي نظرتْ إلى النصّ القرآني بطريقة بلاغية حديثة. بيد أن ثمّة كتابًا جميلًا ومفيدًا صدر في تسعينيات القرن المنصرم عن دار المشرق التابعة لجامعة القدّيس يوسف في بيروت، عنوانه؛ "طريقة التحليل البلاغي والتفسير: تحليلات نصوص من الكتاب المقدّس والحديث النبوي الشريف"، وشارك في كتابته أربعة من أهمّ الباحثين الأساتذة؛ لويس بوزيه، ورولان مينيه، ونائلة الفاروقي، وأهيف سنّو. ومن عنوان الكتاب يتضح أن النصّ القرآني لم يكن داخِلًا في التحليل. 

بعد سنوات قليلة، في زمنٍ مضى، في المعهد الفرنسي للدراسات بدمشق، كان ثمّة يوم دراسي كُرّس للقاء باحثٍ بلجيكي طبّق أسلوب التحليل البلاغي على سورة المائدة. وفي مناسبة مماثلة يكون المدعوون من الباحثين المختصّين بعلوم اللغة العربية وعلوم الشريعة.

لم يكن البلجيكي ضليعًا باللغة العربيّة، وطبّق بصورة شبه آلية منهج التحليل على النصّ المقدّس، وحين وصل إلى الشقّ التفسيري من التحليل، أخطأ في غير ما موضع، وقسر "سورة المائدة" على التشابه مع ما ورد في ظنّه في التوراة، وبدا كما لو أنّه يأخذ معاني العهد القديم واستعاراته ويدخلها في سورة المائدة.

كانتْ تلك مناسبة نادرةً لرؤية تفاعل أساتذة علوم الشريعة مع الباحث البلجيكي، إذ تغيّرتْ ألوان وجوههم، ما إن بدأ أحد الباحثين اللامعين السوريين بتصحيح أخطاء البلجيكي في تفسيره للسورة، ها هنا بدأ أساتذة علوم الشريعة بالمشاركة، وبأقلّ من لحظتين فتحوا خزائن علوم اللغة العربية، من نحو وبلاغة، لكأنّ معرفتهم المختزنة طوال سنين وجدتْ طريقها للخروج والتفكير بمسائل كانتْ في ظنهم "حسّاسة" من قبل. 

ليس هذا المقالُ في باب مديح علم العَروض ولا البلاغة ولا الأساتذة المحترمين، إذ إن من أسر مستمعيه في تلك الجلسة المفيدة والممتعة لم يكن عربيًا ولا أستاذًا في كلية علوم الشريعة، كانَ رجلًا إيطاليًا طويلًا، ذا صوتٍ جهوري، يدقّق في طريقة لفظه للحروف الصعبة للغة الضاد. انتبه الإيطالي الساحِر إلى رقّة معرفة البلجيكي وخفّته، إذ سلبَ سبْق المعاني من النصّ القرآني المقدّس، وأهداها للعهد القديم، ربما عن جهلٍ وربما بسبب عادة استشراقية متأصلة لدى بعض الباحثين الأجانب.

بدأ الإيطالي دفاعًا مكينًا عارِفًا عن النصّ القرآني، فشرح للبلجيكي المعاني، وفسّر له منها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وبدا لدقائق شديد القرب من أساتذة كلية الشريعة، الذين لم يكفّوا عن الابتسام ولا عن التدفّق في سوق الحجج المستندة إلى علوم اللغة العربية وإلى معرفتهم الوافية بالطبع بمعاني القرآن. لا، ليس هذا المقالُ في باب مديح علم العَروض ولا البلاغة ولا الأساتذة المحترمين، هذا المقال لسرد قصّة الرجل الإيطالي. لم يعد الرجل بيننا، ذهب مرّة للحوار مع "المتطرفين" في الرقة، ولم يعد. اسمه الراهب باولو داللوليو.


المساهمون