منى حلاّق في اللائحة النبيلة

17 مايو 2016
لوحة للفنانة السعودية نور هشام السيف (بإذن من الفنانة)
+ الخط -
في عام 2001 في مدينة بيروت، أقامت المهندسة المعمارية اللبنانية، منى حلاق، معرضًا تجهيزيًا بعنوان "وجوه ضائعة". التجهيز (Installation) أو المنشأة، بتعبير الناقد الفني، فريد الزاهي، من الفنون المعاصرة "الغربية"، وقد وُلد في سياق تحولات عالمنا لناحية علاقة الفن برأس المال، وتحديدًا ليكون الفن خارج السوق، وغير قابل للبيع. إلا أن ولادة أمر ما ضمن سياق بعينه، لا تضمن له البقاء في نقائه الأولي. وسرعان ما صار التجهيز بحد ذاته من الأمور القابلة للبيع والاقتناء خصوصًا من قبل المتاحف الكبرى. بيد أن بذرة التمرد الكامنة في "التجهيز" أدت إلى جعله من أقوى حوامل النقد بمعناه الذي يشبه لفت النظر فالتحذير فالمقاومة، إلى ما هو سيىء وشرير بغية مجابهته. 

ضمن هذا الإطار، أرادت المعمارية حلاق تسخير فن التجهيز، لتلفت النظر إلى "قضية" كانت - وما زالت بالطبع - تشغلها وتشغفها: المبنى الأصفر أو مبنى بركات في بيروت، بموقعه المميز عند التقاطع في منطقة السوديكو، وبطرازه المعماري الفريد، فضلًا عن محتواه؛ ذاكرة بيروت بأطوارها الشهيرة : قبل الحرب، إبان الحرب، بعد الحرب.

استدرجت المعمارية أهل المدينة إلى المعرض، حيث في بيت آخر - كان مهددًا بالهدم، وقد هدم - أقامت تجهيزها، المكون من ترتيب أغراض شخصية لطبيب أسنان كان يقطن في المبنى الأصفر. وإذ تمتعت المعمارية بحساسية عالية في ترتيب الأوراق وأدوات العيادة والبطاقات، ضمن الفضاء المهدد بالتهديم، لم تنقصها الموهبة في تعليق الجرائد التي وجدتها في بيت الطبيب، بشكل متتالٍ، وتمامًا عند مستوى نظر زائر المعرض، كي يقرأ المانشيتات قبل أن يخرج من البيت. كانت تلك الجرائد تعود إلى فترة الخمسينيات أو الستينيات من القرن المنصرم، وفي عام 2001، بدت طازجة، فالعناوين التي تحب البريق البلاغي الذي يخفف من وهج شر السلطة، كان حاضرًا في متتالية الجرائد تلك، لكأن المعمارية أرادت لزائر معرضها أن يفكر أن السلطة الشريرة ما زالت هي ذاتها، وأن شيئًا لم يتغير رغم مرور الزمن. وبالطبع تقود الأغراض الشخصية للطبيب نحو حكاية مبنيين في آن معًا؛ مبنى البيت حيث المعرض، ومبنى البيت الذي ضمّ ما تعففت مليشيا الحرب عن سرقته من بيت الطبيب؛ مبنى بركات.

وهما معًا ضمن سلسلة من مبانٍ تراثية في بيروت، أرادت حلاق، مع غيرها من أصحاب الضمير، منع هدمها، فعملت بدأب وصبر لسنين طويلة، وعرفت كمعمارية أية المباني "تعدها" السلطة تراثية وأيتها لا. وكانت معايير السلطة تختل وترقص، لتنقص عدد المباني من 460 إلى حوالى 220، على إيقاع رأس المال المتوحش الذي يريد لبيروت كمدينة عريقة، أن تكون وتصير برّاقة كمشروع عقاري لأهل المال والاستثمار.

في النهاية نجحت حلاق في إنقاذ مبنى بركات، واستملكته بلدية بيروت، وبالتعاون مع الفرنسيين، وضع مشروع لتحويله إلى متحف لذاكرة المدينة، واختير له اسم جديد "بيت بيروت". ويبدو أنه افتتح مؤخرًا قبل أن تكتمل مراحل المشروع. وقد ركزت حلاق خصوصًا في معرض حديثها عن الأمر عن تأخر أو تلكؤ مرحلة "المحتوى الثقافي" لمتحفٍ مماثل.
ولو أخذنا حكاية منى مع المبنى الأصفر من زاوية أخرى، لما صارت صعبة روايتها بطريقة مختلفة : تكوّنت منى حلاق معماريًا في الجامعة الأميركية في بيروت، سليلة أولى نويات مدارس التبشير التي انتشرت في المشرق. وإذ كبرت في مدينة الحرب الأهلية، شهدت بعينها بعد ذاك ولادة تجمعات وجمعيات أهلية، مفهومها غربي ويسمى مثلًا NGO. فلنقلْ إن تلك التجمعات الأهلية على أنواعها المختلفة، تشبه قليلًا مدارس التبشير، من حيث هي ترفد المجتمع المحلي بأفكار "غربية". بيد أن رواية الحكاية على هذا النحو المريب، تصب في "مركزية أوروبية" مقيتة، تغفل عن قصد أثر العامل المحلي.

فها هي مدارس التبشير وقد "تعرّبت" وكوّنت منى، التي عملت في نسيج الجمعيات الأهلية المسماة غربيًا أيضًا "مؤسسات المجتمع المدني". أن تكون منى صاحبة ضمير، فهذا يعني "تعريب" المعرفة الغربية، وإعلاء شأن الهوية المحلية، لا من خلال البلاغة والشعارات، بل من خلال العمل الدؤوب والإصرار والشغف. أمور صعبة في كل حال، وتحتاج نارًا داخلية قوامها التمسك بالمكان والهوية، طريقًة في الحياة.
وتمامًا كما فرحتْ هي حين أنقذت المبنى الأصفر من الهدم، طاف الفرح وفاض، عند كل مرة قُرىء اسمها في لائحة من أجمل اللوائح وأكثرها نبلًا، إبان الانتخابات البلدية الأخيرة : #‏بيروت_مدينتي‬.


المساهمون