في كتابه الأخير "انتصار الفنّان" (2017)، يستعيد تزفيتان تودوروف سيرة نخبة من المبدعين السوفييت الذين خاب أملهم في الثورة البلشفية التي أيّدوها في بداياتها، فواجهوا أقداراً تراجيدية بالتصفية أو النفي أو العزلة والصمت منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي، حين رفضوا التبشير بشعارات النظام الجديد.
من هؤلاء، كان الفنان والمنظّر كازيمير ماليفيتش (1879 - 1935)، الذي ربما تختزل تجربته حالة التعاطف الأوروبية التي أنتجتها معاداة الشيوعية، باعتبار تلك التجربة انحيازاً إلى اللاموضوع (أي إلى اللا أيديولوجيا)، مثل كتابات تودوردف نفسه الذي لا يرى فارقاً يُذكر بين مآلات الرأسمالية اليوم وبين الأنظمة الاشتراكية، مشيراً إلى رفضه أن يكون الفنان في خدمة الثورة ويكون فنّه دعائياً.
في الحقيقة، أراد مؤسّس "حركة السوبرماتيزم" (التفوقية) هدم واقعٍ بأكمله بالعودة إلى فكرة أساسية عبّر عنها بوضوح في مذكراته، تتمثّل في أنه يمكن تجاهل كلّ البنى الموجودة والعودة إلى الطاقة بوصفها الوحدة المركزية المكوّنة للإنسان، حيث يتشكّل الجمال المطلق ونصل معنى الانسجام ما بعد الصفر، والذي يعني به الخليط غير المنتظم من العناصر في أعماله.
حتى نهاية أيار/ مايو المقبل، يتواصل معرض "كازيمير ماليفيتش: أسطورة الفن التجريبي الروسي" في غاليري "مطافئ: مقر الفنانين" بالدوحة، والذي افتتح في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، بتنظيم من "المتحف الروسي الحكومي" في مدينة سان بطرسبرغ.
يضمّ المعرض أكثر من مئة عمل تمثّل مراحل مختلفة عاشها الفنان الذي وُلد في مقاطعة تقع داخل حدود بولندا حالياً، ونشأ مع عائلته في أوكرانيا، حيث عمل في هيئة سكة الحديد قبل أن يترك عمله وزوجته الأولى ويسافر إلى موسكو، حيث قرّر الانتساب إلى مدرسة "الرسم والنحت والعمارة" التي لن تقبله بعد تقديم طلبين للالتحاق بها.
لم تكن حادثةً عابرة في حياته، إذ سيُصبح ماليفيتش أشدّ المعارضين للمدرسة ولجميع آليات الضبط والسيطرة على الفن، حيث سيعادي الرسم الذي ينتمي إلى النظام القديم، ويبتهج حين تنتصر ثورة 1917، حين يظّن أن قناعته هذه تتحقّق على الأرض.
في تلك اللحظة أيضاً، يُعلن انتهاء المنظور كأساس للوحة، ما يعني ببساطة انتهاء فعل محاكاة الطبيعة الذي قام عليه التشكيل وجميع الفنون المجاورة له، وموت الشكل حين عمِد إلى تغطية أشكال لم تعجبه في لوحات رسمها باللون الأسود الذي انتهى إلى مربع أسود يتوسّط اللوحة.
للدقة أكثر، فإن لوحة "المربع الأسود" نُفّذت عام 1915 (قبل الثورة بسنتين) أثناء عمله في تصميم أزياء وديكور مسرحية "الانتصار على الشمس"؛ حيث ينزع عن اللون الأسود دلالاته الرمزية والفلسفية المرتبطة بالشر والظلام، ويصل عندها إلى جوهر "السوبرماتية" بالعثور على مربعه الذي سيلهم الفنانين والمعماريين والشعراء على حد سواء. كما جاء الأسود في المربع ليدلّ على نفاذ الأبيض خلاله فتختفي التناقضات بينهما.
أتى عمله الثاني "مربع أبيض على أرضية بيضاء" عام 1918، لينتهي من اللون كمجالٍ يحدّد طبيعة الأشياء من حولنا والنظام الذي يجمعها. وقد عبّر عن ذلك بقوله "تخيلاتي بالنسبة إلى اللون لم تعد ملونة. إنها آخذة في الانسحاب نحو لون واحد؛ الأبيض".
هنا، نصل إلى جوهر الفن لديه، والذي لن يتطابق فيه الشكل واللون مع أية معرفة سابقة أو مقرّرة، لنكون قد تواجهنا مع الحرية كما رآها، تتسم باللانهائية واللا محدودية، وهي النقطة التي لم يعد يمكن السكوت عن تمثّلاتها كما فعلت السلطة حين غضّت النظر عن تنظيرات وأنشطة مدرسة الفنون الشعبية التي أسّسها مع مارك شاغال في فيتسبك حتى منتصف العشرينيات، والتي حاولت الربط بين الفن الجديد وشيوعية الدولة.
ومثلما شكّل الشاعر الروسي مايكوفسكي رمزاً للحداثة الشعرية، احتل ماليفيتش مكانة مماثلة بوصفه أبرز منظّري الفن المستقبلي، وحين تواجه كلّ منهما مع النظام، اختار الأول الانتحار بينما سُجن الثاني وفشل في الفرار خارج روسيا ونُعت فنه بتخليه عن قضايا المجتمع وصراعه الطبقي واعتُبر مجرّد "برجوازي صغير حالم" في نظر النقّاد السوفييت.
أُعيد الاعتبار إليه بعدما ساهمت تنظيراته في تغيير مفاهيم عديدة، ربما من أبرزها الاعتماد على نموذجه في التخلّي عن المحاكاة إلى الأبد، عبر الربط بين تجريديته والعمارة البدائية التي شاعت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وتجد محدّثين لها حتى اليوم.