تذهب أعمال الكاتبة البولندية أولغا توكارتشوك (1962) - الحائزة على جائزة "نوبل للآداب" للعام 2018 وتتسلمّها هذا العام - إلى تسليط الضوء بفضل قدرتها الفائقة في السرد والتصوير، على قشرة الحداثة الخارجية للإنسان، للوصول إلى حالة من تمثلات الجوهر البشري. مزيجٌ من الواقعية السحرية والانشغالات النفسية التي قالت فيها إنها تبدو أكثر عصابية من مرتادي عيادتها من المرضى النفسيّين، أسّس لنفسه بشكل متين في الأدب البولندي الذي قادها إلى العالمية.
بهذه الطريقة، قدّمت صاحبة "الأطفال الخضر" (2016) نفسها: "مراقبة لأحداث الحياة من الأعلى". وبنظرة بانورامية عريضة، منحت رواياتها حالة من حالات التشظّي التنوعي التي لا تسمح لقصصها أن تنتهي كما يحب القارئ لها أن تكون. تقول في إحدى مقالاتها: "كتابة الروايات، مثل سرد قصصي للذات، هدهدة ما قبل النوم، كما يفعل الأطفال، مستخدمين تلك اللغة التي تقع على الحدود بين النوم والوعي".
لا تخفي صاحبة "كتاب إبراهيم" تأثرها بـ إدغار آلان بو، الكاتب الأميركي الذي اشتهرت قصصه بالنهايات المروّعة وتحرّي الجرائم؛ إذ تقول: "عليكم أن تلوموا إدغار آلان بو، لأنه هو الذي جعلني كاتبة، بالإضافة إلى غوغول وتشيخوف". لا يبدو ذلك بعيداً عن جوهر ما تردّده دوماً من أنَّ "الرواية عليها أن تدفع بمواجهة المشاعر بالأفكار. هذا يعني أنه في بعض الأحيان تكون الحالة مؤلمة، وأحياناً تُحدث اضطراباً".
في عام 2007، نشرت روايتها "رحلات"، وهي الرواية التي ستصبح الأكثر مبيعاً وتفوز بـ "جائزة نايك" لعام 2008. بعد عقد من الزمان، ستفوز بـ "جائزة مان بوكر الدولية" في الترجمة الإنكليزية التي أنجزتها جنيفر كروفت. ولكن بعد الانتهاء من كتابة الرواية، أحست توكارتشوك بالكثير من الانزعاج؛ فقد أُصيبت الكاتبة برهاب السفر، حيث تضم الرواية قصصاً مضطربة تتجوّل في بلدان متعددة، وبدأت تميل إلى البقاء في مكان واحد.
"رحلات" هي رواية عن السفر في القرن الحادي والعشرين والتشريح البشري، تمزج فيها بين قصص وأفكار السفر مع تلك المسحة التي تستكشف من خلالها تفاصيل جسم الإنسان، وتطرق في تلك الرحلات ذلك الغشاء الذي يفصل الحياة والموت والحركة والهجرة، معرّجة على القرن السابع عشر وقصة عالم التشريح الهولندي فيليب فيرهيين، الذي قام بتشريح ورسم صور ساقه المبتورة. ومن القرن الثامن عشر، تسرد قصّة رجل وُلد في شمال أفريقيا وظهر بعد موته في النمسا، وقصّةً مروّعة لزوج شاب اختفت زوجته وطفلته في ظروف غامضة خلال عطلة في جزيرة كرواتية.
تقول في كتابها: "عندما نتوقّف عن الترحال نصبح أصناماً. من يتوقّف يصبح مثل حشرة مثبتة بدبّوس، يخترق قلبه مسمار خشبي، تثقب أقدامه ويداه ويتم ربطه بالسقف وبعتبة البيت... لذلك يضمر الطغاة بكل أصنافهم كرهاً عميقاً للبدو والرحّل، وهذا هو سبب اضطهادهم الغجر واليهود. يرغموننا على الإقامة واتخاذ مكان ثابت لنا كي نقضي فيه أحكام سجننا".
وتسرد هنا قصة طريفة حدثت معها: "عندما أرسلتها في بداية الأمر للتحرير، اتصلوا بي وسألوني عمّا إذا كنت قد قمت بخلط الملفات على جهاز الكمبيوتر الخاص بي، لأن ذلك لم يكن رواية على أي حال، على حد وصفهم".
في روايتها "كتاب يعقوب" (2014)، تتجول توكارتشوك في إمبراطورية هابسبورغ والإمبراطورية العثمانية والكومنولث البولندي الليتواني بحثاً عن جاكوب فرانك، الشخصية التاريخية المثيرة للجدل من القرن الثامن عشر وزعيم جماعة منشقة يهودية غامضة تحوّلت في أوقات مختلفة لكل من الإسلام والكاثوليكية. ترسم الروائية صورة معقّدة لرجل يثير الانقسام في المجتمع، لكنه يتمتّع بجاذبية غامضة، ومن حياته تسلّط الضوء على مسارات سرد التاريخ المعقّدة. وهو الكتاب الذي أدّى إلى رد فعل عنيف من جماعات اليمين المتطرف في بولندا؛ حيث تلقّت تهديدات بالقتل بسبب خلخلته للتفسير القومي السائد لتشكيل الدولة القومية البولندية الحديثة.
تكثّف في كتابها "البدائية وأوقات أخرى" (2010) قريةَ بريمفال البولندية الأسطورية كصورة مصغَّرة عن العالم تسكنها شخصيات غريبة الأطوار ويحرسها أربعة رؤساء ملائكة. تسرد الرواية حياة السكّان على مدار القرن العشرين الوحشي بأسلوب نثري أقرب إلى واقعية غابريل غارسيا مركيز السحرية في "مائة عام من العزلة". تقوم الرواية على صياغة صراع من نوع خاص، بين الحداثة (المذكّرة) والطبيعة (المؤنّثة)، والذي دار فوق حلبته تاريخ بولندا السياسي من العام 1914 إلى وقتنا المعاصر، متناولة الوحشية في إطار حياة قرية عادية بسحرية متقنة.
وفي روايتها "دفع محراثك فوق عظام الموتى" (2018)، تستكشف تلك الحدود الغامضة بين العقل والجنون، والعدالة والتقاليد، والحكم الذاتي والمصير، من خلال قصّة الساحرة جانينا التي تكرّس أيام الشتاء المظلمة في قرية بولندية نائية لدراسة علم التنجيم وترجمة أشعار ويليم بليك والعناية بالمنازل الصيفية لسكان وارسو الأثرياء. يعتقد سكان البلدة أنها من غريبي الأطوار الفوضويين، تظهر في البلدة حالات قتل غريبة، تعتقد جانينا أن الحيوانات في محيط البلدة تنفذ عمليات انتقام من الصيادين.
بفوز أولغا توكارتشوك بـ "نوبل للآداب" يوم الخميس الماضي، تصبح الفائزة الخامسة عشرة بالجائزة في تاريخها، بعد أن مُنحت 114 مرة للذكور وأربع عشرة مرة فقط للنساء. وكانت "الأكاديمية السويدية" أعلنت في معاييرها المسبقة للإعلان بأنها ستتجنّب المنظور الموجّه نحو الذكور ومركزية أوروبا، لتمنح الجائزة للعام 2019 للنمساوي اليميني بيتر هاندكه (1942) الذي أثارت مواقفه العنصرية، وتحديداً بعد أن ألقى خطاباً في جنازة الصربي سلوفودان ميلوسوفيتش في عام 2006، الكثير من المواقف الغاضبة والاحتجاجات التي دفعته إلى الانسحاب من "جائزة هاينريش هاينه".