تكتسي رحلة عبدالرحمان بن خلدون، والملحقة ضمن كتابه "العبر" أهمية خاصة، وربما مركزية، لأنها تسلط الضوء على الرجل الذي سيصير بعد ذلك أهم عالم اجتماع عربي في القرون الوسطى، وصاحب النظرية التاريخية في قيام الأمم واندحارها، وفي تفسير أسباب الصراع السياسي ونشوء الدول وأفولها، وتوحد الجماعات البشرية وتبددها وتشرذمها، هو الذي عاش قريبا من كل هذا أو في عمقه، في زمن انهيار الأندلس وبداية نهاية الوجود العربي بها، وصراع الدويلات والسلاطين في بلاد المغرب العربي من تونس إلى المغرب.
لكل هذا، ولغيره، فإن رحلة بن خلدون، التي حققها المحقق المغربي محمد بن تاويت الطنجي، احد أهم أعلام المحققين في المغرب والعالم العربي، هي مفتاح لكل ما كتب، وفيها وضح الأسباب الذاتية والموضوعية التي دفعته أو أوجدته، لكي يكون قريبا أو في عمق الحدث السياسي في المغرب العربي وفي الأندلس وفي مصر، التي ارتحل إليها لاحقا وتوفي بها.
وربما هذا يطرح السؤال العميق حول معنى أن تكون مؤرخا، فليس كافيا أن تكون خريج معاهد عليا أو حاصلا على شواهد دكتوراه، هذا كله جيد، لكنه لا يكفي، إذ لا بد من التوفر على مسافة القرب الضرورية من مالك السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، بل ومشاركته في فعل من أفعال السلطة، ناصحا أو مستشارا أو "كاتب ديوان"، أو مسؤول "مراسلات خاصة"، أو وسيطا، أو "أهل ثقة" أو "مكلفا بمهمة"، وغير ذلك.
وقد مارس ابن خلدون كل هذه المهام في أكناف السلاطين الحفصيين والمرينيين قبل أن يرتحل يائسا إلى مصر مبحرا نحو الإسكندرية أكثر من أربعين يوما، حيث سيجد الترحيب من سلطانها الظاهر برقوق الذي سيكلفه بالقضاء المالكي، لينهي حياته هناك في القاهرة بعد أكثر من ربع قرن من إقامته بها عام 1406م، هو المولود في تونس عام 1332م.
فاجعة عائلية
نشرت رحلة ابن خلدون في كتاب مستقل، في عدة طبعات، وحققه شيخ المحققين المغاربة محمد بن تاويت الطنجي، سنة 1951م في القاهرة.
لربما كان حادثة غرق عائلة ابن خلدون في سفينة في البحر، وهي في طريقها من تونس إلى الإسكندرية أثر عميق على حياته، فقد كان وقتها يتولى القضاء والتدريس في الأزهر، إلى أن بلغه خبر غرق عائلته جميعها، فحزن وطلب من السلطان برقوق إعفاءه من منصبه وتفرغ لاستكمال كتابه العبر.
ونجد أثر هذه الحادثة عليه في مذكراته، التي كان يدونها وشكلت جماع رحلاته في المغرب والمشرق، وربما يكون لذلك أثر حتى على نظرته إلى حركة التاريخ نفسها وتأمله في أحوال النشوء والزوال.
ويوضح المحقق المغربي محمد بن تاويت ذلك حين يقول أن من أحد الأسباب التي دفعته إلى تحقيق كتاب رحلة ابن خلدون، هو تقريب هذا العالم من الناس، ليس من خلال ما قاله ويقوله عنه الآخرون، ولكن من خلال ما قاله هو عن نفسه، ويخلص إلى أنه من خلال هذا الكتاب اكتشف صورتين: صورة ابن خلدون عن نفسه، وصورة الناس عنه، وهما صورتان تتقاطعان وتتباعدان في الآن نفسه.
ثم يطرح ابن تاويت طريقته في تحقيق الكتاب، الذي استند إلى عدة نسخ، بينها تفاوتات، في أفق الوصول إلى النسخة المكتملة من الكتاب كما أراده ابن خلدون أو كما وضعه.
وقد تعرض عنوان كتاب رحلات ابن خلدون إلى عدد من التغييرات من طرفه هو نفسه وإبان حياته، يكتب ابن تاويت "وكان عنوانه "التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب"، ولم تكن أداة الإشارة "هذا" إلا نداء مدويا يرغمك على الاعتراف بتبعية هذا الكتاب لبقية التاريخ.
وظل العنوان بهذه الصورة حتى بعد أن رحل ابن خلدون إلى الأندلس مرتين ثم ارتحل إلى مصر والحجاز والشام، وأصبح ما جد من تجاربه في رحلاته الجديدة جزءا من حياته يجب أن يدونه، وأن يضيفه إلى ما كان قد سجله قبل ففعل، وعظم حجم هذا الكتاب بما أضيف إليه من جديد الأخبار.
ولم يكن العنوان سالف الذكر من السعة والمرونة، بحيث يشمل هذا الجديد الطارئ، دون أن يدخل في صوغه تعديلا تتضح معه الدلائل على مباحث هذا الكتاب، فحذف ابن خلدون أداة الإشارة "هذا"، التي كانت واضحة على تبعية هذا الجزء لكتاب العبر، وأضاف إلى بقية العنوان الكلمات "ورحلته غربا وشرقا"، فكملت بذلك الصياغة الأخيرة للعنوان وأصبح: "التعريف بابن خلدون مؤلف الكتاب، ورحلته غربا وشرقا"، ويلاحظ فيه بصيغته الحالية، عنصران بارزان "التعريف" بالمؤلف و"رحلته"، وكل منهما دال على معنى واضح في الكتاب".
وتجدر الإشارة إلى أن تحقيق هذا الكتاب قد تم في القاهرة في 1951، وأنه كان بإشراف ورعاية كبار الأساتذة والباحثين المصريين وعلى رأسهم عميد الأدب العربي طه حسين، وأمين الخولي وأحمد أمين، وجميعهم أطروا على جهد الباحث المغربي ونوهوا بطبع هذا الكتاب في "لجنة التأليف" على نفقتها، وهي سابقة علمية تحصل مع باحث مغربي من عيار بن تاويت في مصر في ذلك الوقت من زمن الكبار.
بالنسبة لقارئ هذه الرحلة الفريدة لمؤرخ عربي سيسم الدراسات التاريخية وعلم الاجتماع بميسمه، لا بد أن يلاحظ من النظرة الأولى، أن ابن خلدون كان مثالا للمثقف العربي الجامع المانع، فهو لغوي وفقيه وعالم ببواطن الحديث ومؤرخ وله معرفة بالعلوم التجريبية والرياضيات والتنجيم والإفتاء ومدرس له طلبة وتابعون ورجل سياسة منخرط، أمضى حياته في بلاطات السلاطين في تونس والجزائر والمغرب وغرناطة والقاهرة، يقارع النخب المحيطة بالسلطان وينال الحظوة هنا وهناك والمراتب الرفيعة، ويتعرض للمؤامرات والحسد والدسائس، ويستبعد مرات من صانع القرار السياسي ويعتكف يائسا حزينا أو ينصرف إلى مهنته الأولى، التدريس، ثم سريعا ما يجري استدعاؤه بعد أن يدخل نجمه برج السعد، فيتألق من جديد، وينطلق، وحين تضيق به الحال والأحوال ويقوى حساده يحزم حقائبه ويقصد أرض الله الواسعة، وفي مصر يجد الترحيب والمكانة اللائقة به وبعلمه، ثم يقضي هناك أواخر حياته حيث يقبر وقد تجاوز السبعين من عمره.
علاقات متوترة أحياناً
لم تكن علاقة ابن خلدون مع السلاطين الذين خدم في دواوينهم سمنا على عسل، بل كان يتعرض في كثير من الأحيان للمضايقات، بل وللحجر، دون أن يسمح له بالسفر، حيث يظل في بيته معزولا عن الناس إلى أن يؤذن له بالسفر. وهي وقائع عاشها في المغرب وتونس وتلمسان والأندلس، إذ بسرعة شديدة كانت تداخل الغيرة المحيطين بالسلطان، فيوغرون صدره عليه، إلى أن يطلب منه السلطان الرحيل لما فيه خير للجميع.
وابن خلدون نفسه يعرض الكثير من الوقائع التي جرت معه والتي خرج منها سالما بالكاد، كما هو الحال حين أراد السفر من فاس إلى الأندلس تحت ذريعة طلب العلم والاستزادة منه، وحتى عندما سمح له بذلك بقي تحت مراقبة الأعين، بعد أن وصلت الأخبار من الأندلس عن نشاطاته مع ملوك بني الأحمر، فنقم عليه حكام فاس.
الإقامة في قلعة بن سلامة
تعتبر محطة الإقامة في قلعة بن سلامة، محطة مهمة في حياة ابن خلدون، وهي قلعة قريبة من وهران، وضعه فيها قبائل أولاد عريف، حماية له من حاكم تلمسان، الذي كان قد كلفه بسفارة/ مهمة خطيرة، رفض الحاكم اعتذار ابن خلدون عنها، فما كان منه إلا أن قصد هذه القبيلة الكبيرة ذات البأس، التي وفرت له الحماية وأكرمته، وتشفعت له لدى حاكم تلمسان في كون ابن خلدون ليس من جنس المهمة وأنها صعبة عليه.
بل إن هذه القبيلة التي أكرمت وفادته قامت أيضا باستجلاب عائلته من فاس التي كانت شبه محتجزة، بعد شيوع مناصرته للسان الدين ابن الخطيب والتشفع له من أجل إطلاق سراحه، وتورطه في علاقات "سياسية" مع ملوك بني الأحمر، حيث كان يخشى سلطان فاس أن يخبر الغرناطيين عن أحوال بلاط فاس ويقدم بعض المعلومات التي يمكن أن تضعف من قوة حضور المرينيين حكام المغرب في ذلك الوقت.
فقلعة بني سلامة تلك، هي التي سيجتمع فيها ابن خلدون مع أسرته، وسيكون له الوقت الكافي لكتابة كتابه "العبر" ووضع مقدمته الشهيرة. وبالتالي فهو لم يذهب هناك رغبة في الاعتزال أربع سنوات، بل الظروف العامة هي التي فرضت عليه هذا الخيار، وإلا ربما لكان قد قتل أو سجن في أحسن الأحوال.
يقول ابن خلدون "فأقمت بها أربعة أعوام، متخليا عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب، وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة منه على هذا النحو الغريب، الذي اهتديت به في تلك الخلوة".
حظوة وجاه وعداوات
أينما ارتحل ابن خلدون كان مرحبا به، وهو يحكي في رحلاته التي قام بها إلى المغرب والأندلس ومصر، أنه كان يجري استدعاؤه من طرف السلاطين إلى بلاطاتهم، من أجل تقديم الخدمة اللازمة والمشورة في أمور تسيير الدولة. ولذلك يمكن أن نطلق عليه "المستشار غير الرسمي" للملوك والسلاطين. وحتى حين كان يجري استبعاده بسبب انتقال الملك من جهة إلى أخرى في الأسرة الواحدة أو مجيء أسرة حاكمة جديدة، كان لا يعدم من بين أصدقائه من يقوم بدعوته للاستفادة من خدماته ومن تجربته في ترتيب ديوان الملك الجديد.
وهو لم يتورع أو لم يخجل من ذكر الأعطيات الغالية التي كان ينالها هنا أو هناك بسبب تلك الخدمات، وأحيانا كثيرة دون تقديم أي خدمة، فوجود ابن خلدون في حاشية السلطان في حد ذاته مزية كبرى ومدعاة لفخر الجالس على العرش.
يقول مثلا، حين رحب به من طرف السلطان المريني أبو عنان في فاس "وقد اهتز السلطان لقدومي، وهيأ لي المنزل من قصوره، بفرشه وماعونه، وأركب خاصته للقائي، تحفيا وبرّاً، ومجازاة بالحسنى، ثم دخلت عليه فقابلني بما يناسب ذلك، وخلع عليّ وانصرفت".
إنها هدية مستحقة لا ترد وليس هناك من سبب لرفضها، وقد جاء التعبير عنها بالترحاب كما هو واضح من تعبير ابن خلدون نفسه، الذي يريد البعض أن يصوره في صورة المعارض السياسي، بينما كان في الأصل رجلا مثقفا نقديا من داخل بنية السلط الحاكمة في ذلك الوقت، ولا تكشف المذكرات التي كتبها في رحلاته عن موقف احتجاجي صارم، عدا تحليه بالوصف التاريخي وعرض الوقائع بتجرد كبير. ألم تكن غضبة من السلطان الحفصي كافية للرجل كي يهجر البلاد، ويبحث لنفسه عن موطن جديد، بعد أن أخذ إذنا بالرحيل.
يتسم كتاب رحلة ابن خلدون بالكثير من الخلاصات، ومن الأمور النظرية التي يفصل فيها في مقدمته الشهيرة وفي كتابه العبر، ويزيد عليها بعض المواقف الشخصية التي عاشها، إذ بمعنى من المعاني لم يكن مثقفا عربيا مفصولا عن زمنه، بل كان في عمق حركة التاريخ وفي صرير وقائع الأحداث، نافيا تلك الصورة التي يراد أن يلصقها به البعض من أنه "اختلى" كي يكتب، والواقع أنه كان دائم الكتابة والتدوين، حتى أن كتاب رحلته هذا، كما يوضح ابن تاويت، هو نتاج مسار طويل من الكتابة والإضافة، وإلحاق التفاصيل المستجدة حتى توقف عن الكتابة قبل عام من وفاته.
يفسر ابن خلدون الصراع السياسي على الحكم وانهيار الأنظمة وقيام أنظمة جديدة، يقول "ثم إن البأس يقل من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة، وما صاروا إليه من رقة الحاشية والتنعم، فيتطاول من بقي من رؤساء الدولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها. ويستعد لذلك بما بقي عنده من الخشونة، ويحملهم على الإقلاع عن الترف، ويستأنف لذلك العصابة بعشيره أو بمن يدعوه لذلك، فيستولي على الدولة، ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع، وهو أحق الناس به، وأقربهم إليه، فيصير الملك له، وفي عشيره، وتصير كأنها دولة أخرى، تمر عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع في الأولى، فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها، وتخرج عن القوم الأولين أجمع، وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النسب، أو الولاء. سنة الله في عباده".
(رحلة ابن خلدون/تحقيق: محمد بن تاويت الطنجي)