"الإسلام والنخب الإصلاحية": خيط قطعه الاستعمار

15 سبتمبر 2018
"المدينة" لـ نجيب بلخوجة
+ الخط -

فرَض الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وفي تونس لاحقاً، رؤيته على كلّ البنى السياسية والإدارية والاجتماعية في البلدين. وقد لا ينتبه كثيرون إلى أن البلدين كانا قد دخلا في محاولات إصلاحية، ضمن نزعة عامّة نجد أثرها في الأستانة ومصر أيضاً؛ مثل وضع القوانين المحدّدة لسلطات الحكّام، غير أن الاستعمار أهالَ طبقة كثيفة على جميع هذه الإصلاحات فارضاً منطقه كسبيل وحيد لإدماج شمال أفريقيا في العالم الحديث. هكذا بقي السؤال الإصلاحي مطموساً بالرغم من كونه لا يزال يفتح على أسئلة راهنة إلى أيامنا.

في آخر كتبه، "المجتمع والإسلام والنخب الإصلاحية في تونس والجزائر"، الصادر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ينشغل السوسيولوجي التونسي عبد اللطيف الهرماسي بالمسألة الإصلاحية من منظور علم الاجتماع التاريخي.

النقطة الرئيسية التي يتناولها الهرماسي بالبحث تتمثّل في استجلاء علاقة النخب الدينية بالمسعى الإصلاحي الذي امتلكت النخبة السياسية ناصيته خلال القرن التاسع عشر. وهذا المبحث يفتح على إشكالية راهنة وأساسية؛ هي العلاقة بين الإسلام والحداثة.

ينشغل الكتاب، أيضاً، بالبحث في نتائج الاختراق الذي حقّقته الحداثة، سواءً في طورها الإصلاحي أو خلال المرحلة الاستعمارية؛ حيث أن كلّاً من تونس والجزائر تقوم على مجتمعات عاشت ضمن مقدّس ديني، أقامت معماره وأثّثته، ثمّ جعلت منه معيارها في رؤية الكون وإدارة العلاقات الاجتماعية، وهو ما أنتج صدمة بالحداثة لعدم وجود مسار انتقالي بين المرحلتين، ما صدّع بنيان هذه المجتمعات وزعزع وثوقياتها حين بدأ مثقّفوها يطرحون تساؤلات موجعة.

يرى المؤلّف أن التيارات والنخب الإصلاحية الإسلامية هي التعبير الرئيسي، خلال القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين، عن حيثيات الالتقاء بين الموروث الإسلامي والحداثة، بما مارسته من جاذبية وما أثارته من مخاوف، ولا سيما أنها وردت مسلحة بالقوة الاستعمارية، لذلك يجعل من دراستها معبراً لقراءة مرحلة تاريخية شائكة لا تزال مخرجاتها مستمرة في العالم الذي نعاصره.

يتضمّن الكتاب مقدّمة وخمسة فصول وخاتمة. ينطلق الهرماسي من إعادة تركيب صورة "الموروث السياسي والديني في تونس والجزائر"، مُبرزاً التجانس والخصوصية في التركيبة الثقافية والتاريخ السياسي، ودلالات غلبة الإسلام السني المالكي في البلدَين.

بعد ذلك، ينتقل إلى الحديث عن "الصدمة الاستعمارية وتدهور المؤسّسات الإسلامية"، مشيراً بالخصوص إلى التجربة الإصلاحية للأمير عبد القادر في الجزائر. هنا، يعتبر الهرماسي أن المدّة الإضافية التي عاشتها تونس بعيداً عن الاستعمار المباشر مكّنتها من بلورة تجربة إصلاحية أكثر نضجاً جسّدها الوزير خير الدين باشا في سبعينيات القرن التاسع عشر، وإن جرى تسميم هذه التجربة أيضاً بالفساد الداخلي والضغوطات الخارجية.

يعرض الفصل الثالث مرجعيات وتشكّلات ونماذج الحركات والنخب الإصلاحية، ليصل بذلك إلى قراءة صعوبات بناء رؤية إصلاحية حديثة ذات مرجعية إسلامية. ويشير المؤلّف في الفصل الموالي إلى وصول السجالات حول الإصلاح إلى الساحة الدينية نفسها، ضمن ما يسمّيه "تنافس المصالح ونزاع القيم"، والتي كانت تتّخذ غطاءً لها بالتجاذبات بين سلطة التراث ونزعة التجديد.

في هذا السياق، يعتبر الهرماسي أنه من غير الممكن القول إن انهيار المؤسّسة الطرُقية، مثلاً، كان نتاج فاعلية إصلاحية؛ إذ توجد عوامل موضوعية عديدة ساهمت في إضعاف القاعدة الاجتماعية لهذا الشكل من الممارسة الدينية، وصدعت المناخ العقلي الملائم لها.

وفي خاتمة كتابه، يقدّم الهرماسي جرداً بـ"مكاسب الإصلاحية ومعوّقاتها"، وهو يرى أن إنجازات الحركة الإصلاحية في تونس والجزائر لم تُحقِّق إلا على نحو منقوص ما طمح إليه دعاة الإصلاح الأوائل.

المساهمون