كيف أسس عام 1487 لإفشال الثورة المصرية؟

25 يناير 2016
من مخطوط "نهاية السؤل في أعمال الفروسية" ق.14م
+ الخط -

كثيرة هي التواريخ، بل والأرقام، التائهة في زوايا الذاكرة العربية، مؤسِّسةً بذلك لحالة التيه العربي الفردي والجمعي الذي نحصد آثاره في حاضرنا. وكلما تراكمت حقائق التاريخ التائهة عن وعي الحاضر، كلما تأسّس فقدان القدرة على البناء الذاتي المنطلق من أساسات تاريخية وثقافية، تُجمع عليها قوى المجتمع العربي وقواه الحية؛ لتكون مصدر إلهام لها في التقدّم والولوج في البناء الحضاري الحديث.

لم يكن عام 1487 عاماً عادياً في تاريخ مصر. ويكاد يكون من مفترقات التاريخ، بل متعرّجاته، التي ساهمت بشكل مباشر في إخراج مصر من دائرة التأثير الإقليمي والعالمي، إلى الانطواء الذاتي؛ بما يشمل تأسيس نظام المماليك الريعي والإقطاعي الذي سيستمر في حكم مصر حتى يومنا هذا، بل سيعمّم حالته السياسية وكوارثها الاقتصادية على عموم المجتمع العربي، شرقاً وغرباً.

ففي هذا العام تحديداً، ثأرت أوروبا المنبعثة بقوة الانتصار على الجبهة الأندلسية من مصر المماليك التي احتكرت طريق التجارة من وإلى الهند وسواحل شرق آسيا؛ حيث أعطت الجغرافيا وليس غيرها لمصر (المماليك) دفعاً جيوبوليتيكياً فرضها، بل منحها، قوة اقتصادية هائلة، بل أسطورية غير مسبوقة.

جعل هذا من خزائن مصر، في ذلك الزمن، خزائن الأرض التي أعطت بالتالي للمماليك شرعية حكم مصر ولو على شكل نظام سياسي بائس تقوم شرعيته بالأساس على شرعية المتغلّب المالك للمال والتجارة والأرض (الإقطاع) والشعب على شكل عبيد يعلمون تحت إمرته، ويجمعون له الضرائب، تاركين نظامه (أي المماليك) يأخذ مصر يميناً شمالاً حيث شاء مشبعاً بالانقلابات العسكرية والمؤامرات الداخلية التي ستطبع أيضاً شكل السياسة المصرية إلى يومنا هذا.

والسبب في ثراء المماليك ونظامهم في مصر وبلاد الشام يعود إلى حقيقة اكتشاف الصليبيين بعد انتهاء الحروب الصليبية، بل حتى وإثنائها أهمية التجارة الدولية مع المشرق. وما هي إلا سنوات قليلة، حتى امتهنتها ممالك أوروبا مما عاد عليها بالنفع الكبير، بدلاً من مجرد استقبال البضائع على موانئ إيطاليا والأندلس من قبل التجار المسلمين.

هكذا، استهل المماليك حكمهم في مصر في عام 1250 ميلادي، بميزة تجارية كبيرة، وهي الوسيط التجاري بين أسواق الهند وآسيا الواسعة، وبين أوروبا المتشوقة، بل المندفعة، نحو خوض تجربة التجارة بما يُدرّ على ممالكها في إيطاليا وفرنسا وألمانيا من ربح وفير، بل وتوفير مواد أولية كانت مفقودة في السوق والمدن الأوروبية.

وإن كان عصر المماليك (البحرية) الممتد من عام 1250 حتى 1382، هو عصر الثراء الذهبي للمماليك مصر ولمصر عموماً؛ حيث شهدت فيه نهضة علمية ثقافية وعمرانية واسعة وغير مسبوقة، فإن آثار هذه التجارة، وما يترتّب عليها من جني هائل للضرائب من التجار الأوروبيين، بقي مسبّباً لانعاش خزينة مماليك مصر؛ حيث كان الممالك قد استغلوا موقع مصر خير استغلال بفرض ضرائب باهظه على التجار الأوروبيين، وصلت في بعض المراحل أن يضطر التاجر الأوروبي لدفع غرام ذهب مقابل كل غرام من الفلفل والبهارات التي  باتت عناصر رئيسية في وجبات أطعمة أمراء ونبلاء أوروبا الجدد.

ومع اكتشاف طريق الرجاء الصالح، في عام 1487، وبهزيمة المماليك في معركة ديو البحرية قرب مدينة كلكتّا الهندية في عام 1509 لصالح البرتغاليين، وفقدان مماليك الهند لمعظم سواحل وموانئ الهند الشرقية يكون فصلاً من السيطرة المملوكية على موانئ التجارة الدولية قد انتهى لغير رجعة؛ ما أفقد مصر دورها التاريخي في التنظيم والاستفادة من الجزء الأهم في التجارة الدولية، وبالتالي فقدان خزائن مصر لعائدات "نفط" ذلك الزمان. ومع فقدان مصر لهذا الدور على الصعيد السياسي والاقتصادي، تأسست مصر المملوكية الجديدة بدءاً من القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر.

فالمماليك الذين اعتادوا أن يتقاسموا ثروات مصر فيما بينهم، قاموا بعد عام 1487  بفرض ضرائب باهظة على المجتمع المصري لتعويض ما فقدوا من عائدات الضرائب التجارية خاصة، وقد أسس ذلك لاحقاً لسيطرة طبقه المماليك (الجيش) على مصادر الدخل المصري ما يتوفّر من مال بين يدي التجار والفلاحين من موارد، بل شاركوهم فيها وصولاً إلى حالة الإقطاع التي توارثها المصريون جيلاً بعد جيل، حتى باتت وبالاً على الدولة والمجتمع المصريين، بل أشبه بثقافة عامة؛ ما أورث المجتمع المصري تراجعاً ثقافياً وفكرياً، فجفت أقلام الفقهاء والمؤرخين والمدونيين، وتجمدّت عروق الحياة الحضارية التي شهدتها مصر بين عامي 1250 حتى 1500.

وكما حصدت مناجل الضرائب المملوكية أرواح الحياة السياسية والفكرية في مصر، فقد حصدت أيضاً مناجل الأمراض والطاعون أرواح ملايين المصريين؛ فتعاون المرض والفقر والجهل على إقصاء مصر المؤثرة لصالح طبقات المماليك الذين لم يتوقفوا عن جمع الضرائب الباهظة والمال دون مقابل، فساهموا في تحويل مصر إلى ما يشبه إقطاعية يتوارثها الأقوى سياسةً.

هكذا، استيقظت مصر فجأة، لتجد نفسها مع بدء نزول سفن نابليون على الساحل المصري، مملوءةً بالجهل والفقر من جنوبها حتى شمالها، ويتحكّم في مصائرها مملوكين اثنين يتناوبان على حكم مصر عاماً بعد عام، يعاونهما حوالي 80 ألف مملوك آخر في تقاسم أرض مصر فِلاحةً وزراعةً، في حاله سياسية واقتصادية كئيبة، جعلت بعضاً مؤثراً من أهل البلد يرى في مدافع نابوليون التي حصدت أرواح فقراء مصر مصدر إلهام وتنوير، بل بوابة للحداثة، والتقدم.

وإن كان محمد علي باشا قد أدرك في عام 1811 أن مقدرات الدولة، وبعد جلوسه على عرش مصر نيفاً من ستة أعوام، ما زال بيد مماليكها الذين توارثوا أرضها ومداخيل زراعتها لمئات سنين قد خلت، إلا أن بنية الجيش المصري الجديد في عهده قد أعادت إنتاج ميكانيزم الإخضاع الذاتي للشعب المصري، وسنرى أن هذا الجيش الذي تم تقليم أظافره في اتفاقيه لندن عام 1840، ومروراً بالثورة العُرابية وثورة الضباط الأحرار في عام 1952، ما زال عصب السياسة المصرية وحارس خزائنها و ثرواتها، وسيحرق بدهاء جنرالاته أو غبائهم كل من يقترب من مصدر رزقه وعيشه، وإن تطلب الأمر حبس الشعب المصري أكلمه في سجون اليأس والإحباط، والنكوص عن عتبة النافذة الحضارية التي خُيّل لنا أنها قد أشرقت من بين ظلمات سنين مصر الطويلة.


اقرأ أيضاً: الثورة حيث الألم يكفي الجميع
 

المساهمون