"المهرجانات": موسيقى السوق والتوكتوك

21 فبراير 2015
من عشوائيات القاهرة
+ الخط -

من عربات التوكتوك والميكروباص والتاكسي، تهبّ علينا الأغاني الشعبية المنتشرة في مصر، وغالباً لا تجد منّا سوى الامتعاض. لا بدّ من الاعتراف بأنّ هذه الأغاني واقع، بالضبط كتلك الصور التي تظهر لنا إذا ما بحثنا في "غوغل إيرث" عن العشوائيات: شكل البناء البدائي المُرتجل بلا جهد، التلاصق والتكرار من دون إبداع أو تغيير؛ لكنّها ليست سوى تعبير عن غريزة البقاء وإثبات الوجود على كوكب مزدحم؛ الفقراء ليسوا من أولوياته.

قديماً، كانت موسيقى "أولاد الذوات" أو "الفن الراقي" هي الأدوار والموشحات، وكان أداؤها يقتصر فقط على نجوم الغناء، في مقابل مونولوجات وطقاطيق العوالم المغناة في النوادي الليلية.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ أغلب الكبار قد تورّطوا في صناعة الاثنين، إلى أن صاغ سيد درويش مزيجه الخاص من الموسيقى التي أصبحت تعبّر عن الشعب بفئاته وتنتشر بينه بمصطلحاته بل ونغماته الحية التي استوحى منها درويش ألحانه مثل نداءات الباعة والعمال. وكانت، إلى جانب ذلك، غنية موسيقياً وقابلة للاستمرار، خصوصاً أنّها اتّخذت خطاً سياسياً نقدياً ساخراً.

مع مرور الزمن، تغيّر مفهوم الأغنية الشعبية مرة أخرى. ظهر على الساحة خضرة محمد خضر وبدرية السيد وجمالات شيحة وعزت عوض الله وشكوكو؛ ليكونوا صوتاً لواقعهم الشعبي بتنوعاته بين الصعيدي والفلاحي والحضري، بمحتوى يراوح بين الكوميديا والغزل، بعيداً عن السياسة.

ما ميز هذه الفترة هو بناء أساس موسيقي للأغنية الشعبية على مرحلتين: مرحلة اعتمدت على غناء جماعي مع آلة إيقاعية بسيطة كالدف، والثانية اتسمت ببُنيتها التي صمدت حتى التسعينيات تقريباً: إيقاع راقص؛ طبلة أو أكثر، وآلة مصاحبة للمغني أو أكثر، تتبادل الأدوار بين عزف اللحن والمصاحبة مثل الكمان والأكورديون والناي.

ثم جاء تغيّر الوسيط الحي (الحفلات المباشرة والراديو) إلى الكاسيت والتلفزيون؛ ليفرض معايير خاصة، شاركت المنتجين في تصفية الساحة الشعبية من نجومها وصناعة نجوم آخرين حسب المعايير الجديدة التي تلائم الوسائط العصرية وتجلب الكسب الأكبر في الوقت نفسه.

وظهر جيل جديد من المغنين يحاول إعادة صياغة اللون الشعبي بأداء "استشراقي" عبر إدخال الآلات الشعبية الأصلية، مثل المزمار والطبل البلدي والصاجات، كما فعل عبد الحليم حافظ ومحرم فؤاد ومحمد رشدي، وحتى فريد الأطرش الذي نجح في تقديم ألحان أكثر مصرية من ملحنين مصريين كثر.

نجح ذلك، ومن أبرز أسباب نجاحه أنه بُني على الشهرة، إلى جانب تجارب هؤلاء الفنانين في الوسائط المرئية كممثلين، والدعم التسويقي الذي لاقاه في حين كان مطربو المرحلة السابقة يعملون بمفردهم غالباً وبلا دعم، وإن شاركهم العمل موسيقيون مهمّون كعبده داغر.

لكن هذا لم يساعدهم مثلما لم تساعدهم موسيقاهم؛ لأن جيل الوسيط الجديد بوسائله الدعائية ومقاييس عصره نجح في نقلهم إلى خانة التراث بجدارة، حتى يبدو لنا أن سيد درويش أتى بعدهم، والعثور على أعماله أو الاصطدام بها له فرص أكبر من أن نجد لهم أعمالاً.

لم يعبر من هذه المصفاة سوى أحمد عدوية الذي نجح في صنع خطه الخاص، قد يكون تميزاً أو ذكاءً فنياً عملياً، أو مجرد حظ؛ لأنه تعثر مع الجيل الذي تلاه للأسباب نفسها وإن ظل تراثاً يزوره الكثيرون حتى يومنا هذا.

أما التيار الجديد، فظهر فيه حسن الأسمر وعادل الخضري وعبد الباسط حمودة وحكيم، الذين استطاعوا الدمج بين ما جدّ على الموسيقى بشكل عام ليجعلها عصرية، وبين روح الشعبي المستمدة من عدوية.

الآن، في عصر التوكتوك، يمتعض كثيرون، من بينهم كاتبة هذه السطور، من شكل الأغاني الشعبية، المعروفة بـ "المهرجانات". لكن، في المقابل، لا يمكن إنكار أنها أفضل تعبير وانعكاس لواقعنا اليومي. كيف؟ في الأغاني الشعبية، المُنتِج الموسيقي هو الملحّن الحقيقي للأغنية، وهو من يحدّد الآلات وطريقة ومكان استخدامها. في "المهرجانات"، لم يتغير هذا، إنما امتد دوره ليضع التصوّر النغمي للكلمات وما إلى ذلك من تفاصيل.. حتى تصبح "أغنية".

تلامس "المهرجانات" موسيقى الـ"هاوس" في تكرار الإيقاع وثباته النسبي، وذلك تأثراً بما نُطلق عليه "أغاني السوق". يرتبط هذا الإيقاع المتكرر بحالة الانتشاء؛ لذلك نربط هذه الأغاني ومستمعيها بالمخدرات والجنس. ويمكننا أن نلمس أيضاً روح موسيقى الراب فيها. ينتج هذا التشابه عن رغبة "المهرجانات" في مواكبة سرعة الحياة اليومية، واحتوائها على تلميحات أو ألفاظ صريحة أحياناً، خارجة عن المألوف، في الأغاني.

جزئية التكرار تحلينا إلى فكرة الدوران، التكرار اللحني الإيقاعي نجده في أنواع موسيقية بعينها، مثل الموسيقى الفرعونية والموسيقى الدينية القبطية، وبعض قراءات القرآن، وحتى الصلوات الهندوسية والبوذية.

عدم تنوع النغمات ووحدة الإيقاع عبر القطعة الموسيقية يُدخل المستمع إلى حالة شبيهة بالتنويم المغناطيسي؛ ما يقوده إلى التفاعل مع ما يسمعه، بغضّ النظر عن إعجابه به أم عدمه. هذا رد فعل جهاز عصبي فيزيائي بحت، مثلما الموسيقى صناعة فيزيائية، وهذا ما تعتمد عليه جلسات الزار وحلقات الذكر عند الصوفية مثلاً.

"برنامج هندسة صوت، وساعة تسجيل، و100 جنيه؛ هذا كل ما تتطلبه صناعة أغنية منزليّاً". هذا ما صرّح به أحد مطربي "المهرجانات". هكذا تحوّلت العملية المعقّدة في الإنتاج إلى جهد شخص أو اثنين: حضّر برنامج الصوت، واخلق عليه دورة الإيقاع المناسبة، جهّز سطر الباص غيتار الصارخ، واترك كل هذا المزيج يستمرّ ضمن تكرار معيّن: أنت جاهز لتغنّي! وهذا ما يفسّر أيضاً تشابه "المهرجانات"، فهي تعكس واقعاً يوميّاً لا يتغيّر.

أصبح ممكناً الآن أن نفهم سبب هذا الانتشار الواسع لـ"المهرجانات". فكيف وهي بتكراراتها تعبّر عن واقع يومي يعيشه عدد هائل من سكّان هذا البلد؟ هل يمكن أن نلومهم على معيار ذوق حياة لم يختاروها أو يجربوا غيرها؟

ليس دفاعاً عن "المهرجانات" أو انحيازاً لقلة جودتها وبدائيتها، إنما هذه الطريقة في صناعة الأغاني. فإلى جانب أنها تعبير واقعي، هي أيضاً رد بليغ على طبقية صناعة الموسيقى في مصر، المتحيزة فقط لمن يملك المال أو المعارف المناسبين. وهي الطبقية الاجتماعية التي تجلّت في مطرب المهرجان الذي يقابله المطرب الشاب الذي وجد رأس مالٍ يوفّر له ما يحتاجه من أدوات إنتاج.. بينما الأوّل، لا يكلّفه الأمر سوى ساعة تسجيل و100 جنيه...

من جهةٍ أخرى، نجد مجتمعاً من الأغاني الأخرى وسمّيعتها منغلقاً على نفسه، يتعالى على من لا ينتمون إليه. يستدعي هذا صورة مستمعي موسيقى الـ"ميتال" في مصر أو "الرؤوس المعدنية" كما يحلو للصحف ترجمتها.

بدأت، أخيراً، شركات الإنتاج في الالتفات الجزئي إلى مطربي المهرجانات، عبر استخدامهم كأدوات ترويجية في جزء من فيلم أو مسلسل، وليس كمشروع مستقل يوازي مشاريعهم مع "النجوم" الذين تصنعهم.

صُنعت "المهرجانات" بأسلوب بديل، مستقلّة بلا منتج أو شركة، وانتشرت عبر قنوات شخصية، ورغم ذلك تحقق انتشاراً واسعاً يشجع الراغبين على التجربة كل يوم. هنا لا بدّ أن نتساءل في ما يشبه الاعتراف: هل الأغاني الشعبية الحالية المتمثّلة بـ"المهرجانات" هي الترجمة لمفهوم "أغانٍ مصرية بديلة معاصرة"؟


* فنانة من مصر

دلالات
المساهمون