شكلت زيارة المشاعر الإسلامية المقدسة في الحجاز هدفاً للكثير من الغربيين منذ العصور الوسطى، للاطلاع على الأماكن الإسلامية المقدسة، والبحث عن السر الذي يدفع الآلاف من المسلمين سنوياً لخوض غمار رحلة منهكة قد تودي بحياتهم في سبيل زيارة تلك الأماكن.
ويمكن القول إن الإيطالي لودفيكو دي فارتيما هو أول مسيحي غربي يزور المدنية المنورة ومكة المكرمة في السنوات الأخيرة من حكم المماليك في العام 1503 ميلادي، وهي فترة كانت تعاني فيها بلاد المشرق العربي حالة من الفوضى الممتدة منذ ما بعد غزوة تيمورلنك.
ويبدو من سياق رحلته التي حققها ودرسها عدد من المستشرقين الغربيين أن فارتيما ربما كان يعمل جاسوساً للبرتغاليين الذين بدأ عصرهم الاستعماري في المحيط الهندي في ذلك الوقت تحديداً. وإلا ما معنى تحمله كل هذا العذاب وتعريض حياته للموت وإنفاق المبالغ الطائلة؟!
تحمل تعليقات فارتيما على بعض الممارسات الشعائرية والعقائد الإسلامية التي رآها وسمعها في المدينة ومكة الكثير من سوء الفهم، محاولاً إسقاط العقائد المسيحية على العقائد الإسلامية، عاقداً مقارنات في غير محلها.
ومع ذلك تعد هذه الرحلة مادة ممتازة لدراسة تلك الحقبة المظلمة من تاريخ المشرق العربي، كونه تعمق في بلدان الجزيرة العربية من حجازها إلى يمنها إلى خليجها.
متخفياً في زي مملوك
أراد فارتيما أن يزور الحجاز في موسم الحج، ولم يكن ثمة إمكانية لذلك إلا عبر التخفي في زي مملوك، ولذلك أقنع قائداً مملوكياً في قافلة الحج الشامي بأن يلبسه لباس المماليك ويعطيه حصاناً جيداً ويلحقه بالمماليك القاصدين الحج إلى المدينة ومكة، وهذا الإقناع كان عن طريق المال وأشياء أخرى لم يحددها، وهكذا سافر من دمشق إلى مزيريب في حوران، حيث مكثوا فيها ثلاثة أيام قبل أن يتجمع الحجاج وينطلقوا في رحلتهم الطويلة التي تبلغ أربعين يوما وأربعين ليلة إلى أن يصلوا للمدينة المنورة.
الشيخ الزعبي
وفي المزيريب، يعلم فارتيما أن الشيخ المسيطر على المنطقة هو شيخ أسرة الزعبي، وأن له إخوة ثلاثة، وأبناء أربعة، وأنه يملك أربعين ألف حصان، وعشرة آلاف فرس، وثلاثين ألف بعير، وأن مراعيه تمتد لمسافة يومين من مزيريب، وأنه كان يشن الغارات ضد سلطان القاهرة وحاكم دمشق وحاكم القدس.
ويتحدث فارتيما عن قيام الشيخ الزعبي ورجاله بنهب مخازن القمح والشعير التي تخزنها الحكومة المملوكية في مزيريب، وكيف يولون وجوههم شطر البادية فلا يستطيع أحد اللحاق بهم. ويذكر أن الشيخ الزعبي يقدم لخيوله حليب النوق لاستراد حيويتها بعد العدو في الصحراء يوما كاملا من دون توقف.
ويصف فارتيما هؤلاء البدو بأنهم ذوو أحجام صغيرة، ولونهم أسمر، وأصواتهم حادة وأعدادهم هائلة لا يمكن إحصاؤها، وأنهم يقطنون الجبل (جبل حوران)، وعندما يحين موعد مرور القوافل المتجهة إلى مكة ينزلون من الجبل ويكمنون بقصد النهب، وهم يحملون زوجاتهم وأطفالهم وكل أمتعتهم وخيامهم فوق ظهور الجمال، وخيامهم تشبه خيام العسكر، ولكنها مصنوعة من الصوف الأسود، كما يقول.
ولا تزال عشيرة الزعبي حتى يومنا هذا تعد أكبر عشيرة في منطقة حوران وأكثر نفوذا وقوة، وتتوزع حالياً بين سورية والأردن وفلسطين، وكلام فارتيما يؤيد أصولها البدوية السليمية.
ويقول رحالتنا إن القافلة انطلقت من مزيريب في الرابع عشر من شهر نيسان (إبريل) سنة 1503 وكانت تضم خمسة وثلاثين ألف جمل، وأربعين ألف شخص، بينهم ستون مملوكاً يحرسون القافلة.
في شرقي الأردن
بعد ذلك يتحدث فارتيما عن الطريق فيقول: "خرجنا من المزيريب صباحاً، وتابعنا سيرنا عشرين ساعة، وعندئذ أصدر قائد القافلة إشارات معينة لكل جماعة من جماعات القافلة، تعني أن كل القافلة يجب أن تتوقف، وأن على كل جماعة أن تلزم مكانها، وهكذا توقفنا أربعاً وعشرين ساعة، وتم إنزال الأحمال من فوق ظهور الجمال، وراح الجمع يطعم دوابه، ثم تلقت القافلة إشارة فأعاد الجميع الأحمال إلى ظهور الدواب في الحال.
ويجب أن تعلم أنهم يقدمون للجمل ما يوازي خمسة أرغفة فقط من الشعير غير المطبوخ، ولا يزيد حجم الرغيف الواحد عن حجم الرمانة، ثم يمتطون خيولهم ويستمرون طوال الليل، فطوال النهار التالي في سفر، فإذا علمنا أن هناك اثنتين وعشرين ساعة سابقات، فأضف إليهن أربعاً وعشرين ساعة أخريات.
وكانت القافلة تجد ماء طوال ثمانية أيام، وذلك بحفر الأرض المتربة أو الرملية أو من الآبار وأحواض المياه. وبعد انقضاء الأيام الثمانية تتوقف القافلة ليوم أو يومين، حتى تنوء الجمال بأحمالها بعد أن غدا مشيها وئيداً، إذ كان الجمل الواحد يحمل أحمالاً توازي ما يحمله بغلان، وكان الركب يقدمون لهذه الحيوانات التعيسة ما تشربه مرة واحدة كل ثلاثة أيام.
وفي الطريق تشتبك القافلة مع قبائل البدو المنتشرة على الطريق في بادية شرقي الأردن"، وهذا ليس غريباً، فالوقت الذي يسافر فيه فارتيما يمثل مرحلة الانحطاط الأخيرة لدولة المماليك التي دامت قرابة المائتي عام، حيث عمت الفوضى بلاد الشام ومصر في أعوامها الأخيرة، وساد الاقتتال بين الأمراء، وكثر خلع السلاطين، وانتشر المتمردون.
وقبل الوصول إلى المدينة المنورة بثلاثة أيام يتحدث فارتيما عن جبل يسكنه ما بين أربعة آلاف وخمسة آلاف يهودي لا يأكلون إلا لحم الغنم وهم مختونون ويعترفون بأنهم يهود. ولا يبدو أن فارتيما تحدث إليهم بشكل مباشر، بل اعتمد على كلام الآخرين عنهم، وربما المقصود بهذا المكان حصن خيبر الذي كانت تسكنه عشائر بدوية حامت حولها الأساطير، بسبب رسوخ أن خيبر كانت واحدة من مدن اليهود في صدر الإسلام.
في مدينة الرسول
بعد ذلك يقول فارتيما: "استأنفنا رحلتنا في اليوم التالي، وبعد يومين وصلنا إلى مدينة النبي، وبالقرب من المدينة المنورة على بعد أربعة أميال وجدنا بئراً، كانت القافلة قد توقفت عندها يوما حيث استحم كل فرد من أفراد القافلة ووضع ثيابه وارتدى ملابس الإحرام من قطع كتان نظيفة قبل دخول المدينة التي تضم حوالي ثلاثمائة منزل، ويحيطها سور من طين، ومساكن المدينة المنورة قد شيدت جدرانها من الحجارة.
والمنطقة المحيطة بالمدينة المنورة قد أصابها القحط، فهي قاحلة مع استثناء وحيد، فعلى مرمى حجرين خارج المدينة يوجد حوالي خمسين أو ستين نخلة في بستان بآخره قناة ماء تنحدر أربعا وعشرين درجة على الأقل. ومن هذه القناة ارتوت القافلة عند وصولها للمدينة".
ويفند فارتيما المزاعم التي تزعم أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم معلق في الهواء، ويقول إنه زار المسجد النبوي وقبر الرسول الكريم.
وفي وصفه للمسجد النبوي يقول: "يبلغ طول مسجد النبي مائة خطوة طولاً وثمانين خطوة عرضاً، ويوجد بابان في كل جهة من جهاته الثلاث، أما جهته الرابعة فلا أبواب فيها، وسقفه مقوس، وبه أكثر من أربعمائة عمود من الأحجار الداكنة، وقد طليت جميعاً باللون الأبيض، وبه حوالي ثلاثة آلاف مصباح تضاء من جانب واحد من الأقواس.
وعند رأس المسجد ناحية اليمين يوجد برج مربع يبلغ طول كل ضلع من أضلاعه خمس خطوات، وقد غطي بالحرير، وعلى بعد خطوتين حاجز معدني مشبك جميل، ويقف الناس إزاءه لرؤية هذا البرج، وفي الجانب الأيسر من هذا الحاجز يوجد باب صغير يفضي إلى البرج، ويوجد في هذا البرج باب صغير آخر، وعند أحد البابين يوجد حوالي عشرين كتاباً، وعند الجانب الآخر خمسة وعشرون كتاباً، وتتناول هذه الكتب جميعاً حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) وتعاليم الدين الإسلامي. ويوجد إلى الداخل من هذا الباب الثاني قبر الرسول وخلفائه".
بعد ذلك يناقش فارتيما بطريقة ساذجة المزاعم الشعبية التي تتحدث عن مظاهر غير طبيعة حول قبر الرسول، ويصل إلى استنتاجات غريبة تتعلق بالنبوة، علماً أن هذه المزاعم لا أصل لها ولا يوجد عليها أي نص، وإنما هي من نتاج ذلك العصر المليء بالأوهام، كانبعاث نور من القبر.
من المدينة إلى مكة
وتتحرك القافلة بعد مكوث ثلاثة أيام في المدينة، يقول فارتيما: "جهزنا أنفسنا للرحيل مع أدلتنا الذين راحوا يتفحصون البوصلات والخرائط الضرورية.. وبدأنا الاتجاه جنوباً ووجدنا بئراً رائعة كانت زاخرة بكميات هائلة من المياه. وقد تركنا هذه البئر وقد نفد ماؤها. ويجب ألا أنسى أن أذكر لكم لقاءنا مع بحر الرمال الذي غادرناه قبل أن نجد جبل اليهود، فقد ظللنا نسافر في بحر الرمال هذا خمسة نهارات وخمس ليال.
والآن عليك أن تفهم كل ما هو قريب. إنه سهل عظيم مستو مليء بالرمال البيضاء الناعمة كالدقيق، وإذا حدث لسوء الحظ أن الرياح تهب من الجنوب بينما أنت قادم من الشمال متجها صوب الجنوب، فإنك ورفاقك قد تموتون. ورغم أن هذه الرياح كانت تهب من الشمال إلى الجنوب، أي في اتجاه مسيرنا نفسه، إلا أن أحدا منا لم يكن يستطيع أن يرى رفيقه على بعد عشر خطوات".
ويضيف فارتيما: "لقد كان الرجال يركبون فوق جمالهم في صناديق خشبية خاصة، حيث يأكلون وينامون داخلها، بينما كان أدلتنا يسيرون ومعهم بوصلاتهم كما لو كنا مبحرين في البحر. وقد مات هنا كثيرون من الظمأ ومات عدد أكبر لأنهم عندما حفروا ووجدوا الماء شربوا كثيراً حتى ارتووا، وفي هذا المكان تصنع المومياوات". وليس واضحا ما هو المقصود بالمومياوات، ولكن الرحالة بيرتون تطرق إلى هذه المزاعم أيضا في القرن التاسع عشر.
ويشير الرحالة الإيطالي إلى معارك خاضوها مع خمسين ألف بدوي قبل أن يصلوا إلى مكة بعد سفر مستمر طوال عشرة أيام. إذ يتحدث عن الصراع الضروس الذي كان ناشباً آنذاك بين أخ وأخيه على شرافة مكة المكرمة.
مكة المكرمة
ويكتب فارتيما حول مكة المكرمة: "سنتحدث الآن عن مكة ذات الشرف الباهر. إنها مدينة رائعة الجمال قد أحسن بناؤها، وتضم حوالي ستة آلاف أسرة، ومنازلها جيدة تماماً، كمنازلنا في إيطاليا.
وتوجد منازل يساوي الواحد منها ثلاثة أو أربعة آلاف دوكات، ولا يحيط بمكة سور، وعلى بعد من مكة بربع ميل وجدنا جبلاً يوجد به طريق نحتته الأيدي البشرية العاملة. عندئذ انحدرنا إلى السهل.
وتمثل الجبال أسواراً لمكة المكرمة، يوجد من خلالها أربعة مداخل. وحاكم مكة سلطان (يقصد شريف) من سلالة محمد، وهو أحد إخوة أربعة، وهو تابع للسلطان الأكبر في القاهرة.
وإخوة سلطان مكة الثلاثة في حالة حرب دائمة معه، ولقد دخلنا مكة المكرمة في الثامن عشر من شهر أيار (مايو)، وكان دخولنا إليها من ناحية الشمال، وبعد دخولنا مباشرة وجدنا أنفسنا ننحدر إلى السهل. يوجد إلى الناحية الجنوبية من مكة جبلان يكاد أحدهما يلامس الآخر، وبينهما بوابة تفضي إلى بوابة مكة.
وإلى جهة مشرق الشمس هناك ممر جبلي آخر كأنه واد يمر عبره الطريق المؤدي إلى الجبل الذي يحيي فيه المسلمون ذكرى تضحية إبراهيم.. ويبعد هذا الجبل عن مكة ما بين ثمانية وعشرة أميال. ويبلغ ارتفاع هذا الجبل مرمى حجرين أو ثلاثة برمي اليد. وهذا الجبل ليس رخامياً وإنما من بعض أنواع الحجارة إلا أن لونه مختلف. وعلى قمة هذا الجبل، يوجد مسجد ذو ثلاثة أبواب.
ويوجد عند سفح هذا الجبل خزانات ماء في الغاية من الجمال. وأحد هذه الخزانات للقافلة القادمة من القاهرة، والآخر للقافلة القادمة من دمشق، وتجمع مياه هذه الخزانات من الأمطار وترد إلى هنا من مسافات بعيدة".
ندرة المياه
ويقول فارتيما إنه حين دخلت قافلة المحمل الشامي وجدوا قافلة المحمل المصري قد سبقتهم بثمانية أيام: "حيث كان ضمن قافلة القاهرة ستة وأربعون ألف جمل ومائة من المماليك".
ويضيف: "يعاني أهل مكة من نقص كبير في المياه، فإذا أراد واحد منهم أن يشرب كمية الماء التي يرغبها فإن ذلك يكلفه أكثر من أربعة كاترينات (عملة) في اليوم الواحد. وسأحدثكم شيئاً عن حياة أهل مكة، فجانب كبير من مؤونتهم يأتي من القاهرة عبر البحر الأحمر، فثمة ميناء يقال له جدة يبعد عن مكة أربعين ميلاً يستقبل هذه المؤن، كما ترد لمكة كميات كبيرة من المؤن من بلاد العرب السعيدة (اليمن)، وكميات أخرى كبيرة أيضاً من إثيوبيا.
وقد وجدنا أعداداً كبيرة من الحجاج في مكة أتى بعضهم من إثيوبيا وبعضهم الآخر من الهند الكبرى، وبعضهم الآخر من الهند الصغرى، وآخرون من فارس، وطائفة من سورية، والحق أقول لكم إنني لم أر أبداً تجمعاً احتشد في مكان واحد كما رأيت هنا في مكة خلال العشرين يوما التي مكثتها في هذا البلد. لقد أتى البعض بغية التجارة، وبعضهم بغية الحج طمعا في أن تغفر ذنوبهم ويعودوا كيوم ولدتهم أمهاتهم".
بضائع في موسم الحج
وحول البضائع التي رآها في مكة، قال رحالتنا: "ترد إلى مكة من الهند الكبرى كميات كبيرة من الجواهر، وكل أنواع البهارات، وإن كان جانب من البهارات يرد من إثيوبيا، ويرد جانب آخر من البهارات إلى مكة من البنغال، وكميات كبيرة من الأقمشة القطنية والحريرية، فعبر مكة تتم تجارة مرور كبيرة في المجوهرات والبهارات بأنواعها المختلفة، والقطن بكميات كبيرة، والشمع والمواد العطرية".
ويعود فارتيما لوصف الحرم المكي حيث يقول: "في وسط مكة يوجد مسجد جميل جداً يشبه الكولوزيوم في روما، إلا أنه غير مبني بالحجارة الضخام، وإنما من قرميد أحمر، وله تسعون باباً أو مئة باب ذات أقواس، وعند دخولنا هذا المسجد انحدرنا عشر درجات أو اثنتي عشرة درجة، وحول هذا المدخل كان يجلس باعة يبيعون الجواهر ولا شيء غير الجواهر.
وعندما تنزل الدرجات المذكورة تجد كل أنحاء هذا المسجد وكل شيء حتى الجدران مغطاة بالذهب، وتحت أقواس المسجد يجلس حوالي أربعين أو خمسين ألف إنسان، رجالاً ونساء، يبيعون مختلف المواد العطرية، غالبها مساحيق لحفظ الأبدان وإنعاشها.. والحق أقول لكم إنه من الصعب أن أصف لكم روعة الروائح التي شممتها في هذا المسجد. إنها تظهر كرائحة مشبعة بالمسك، زاخرة بأكثر العطور إنعاشاً وإبهاجاً".
وصف الكعبة
ويصف فارتيما الكعبة المشرفة بقوله: "في باحة مكشوفة غير مسقوفة، في وسط المسجد، يوجد برج تبلغ أبعاده الأربعة ست خطوات، وقد غطي هذا المبنى (مبنى الكعبة) بالحرير الأسود، وبه باب من الفضة الخالصة بارتفاع قامة الإنسان، عن طريقه يمكن الدخول لهذا المبنى، ويوجد على كلا جانبي الباب جرة يقولون إنها مليئة بالبلسم، ويقولون إن هذا البلسم جزء من كنوز السلطان.
وعند كل ركن من أركان الكعبة توجد حلقة كبيرة. وفي الرابع والعشرين من شهر مايو يبدأ كل الناس قبل طلوع النهار في الطواف حول الكعبة سبعة أشواط، وهم في هذه الأثناء يتمسحون بأركانها ويقبلونها. وعلى بعد عشر خطوات أو اثنتي عشرة خطوة من الكعبة يوجد برج آخر يشبهه ذو ثلاثة أبواب داخله بئر رائعة تبلغ سبع فاذومات. ماؤها مالح قليلاً؟
وعند هذه البئر يقف ستة أو ثمانية رجال لسحب المياه للناس. وعندما ينتهي الناس من الطواف.. يقوم أولئك الذين يسحبون الماء من البئر (بئر زمزم) بصب ثلاثة جرادل على كل حاج من أعلى الرأس حتى أخمص القدم، فيستحم الجميع بهذه الطريقة... وبعد أن يستحم الجميع يتجهون إلى الوادي عند الجبل الذي سبق أن تحدثنا عنه ويمكثون هناك يومين وليلة وهم يشرعون بالنحر عندما يكونون عند سفح هذا الجبل..
وما من رجل أو امرأة إلا وينحر رأسين أو ثلاثة على الأقل، بل إن بعضهم ينحر أربعة وبعضهم ينحر ستة، حتى أنني أعتقد أنه قد تم نحر أكثر من ثلاثين ألف رأس من الغنم في اليوم الأول.. ويقدم كل ناحر ما نحره إلى الفقراء حباً لله وتقرباً إليه، إذ يوجد هناك حوالي ثلاثين ألف فقير سرعان ما حفروا حفرة كبيرة جداً وأشعلوا فيها نيرانا صغيرة، وراحوا يشوون قطع لحم صغيرة يأكلونها".
ويذكر فارتيما أنَّ أحد الحجاج كشف سرَّه، وعرف أنَّه إيطالي، ولكن فارتيما أقنعه بأنه مملوك اعتنق الإسلام صادقاً، وتظاهر بكراهيته للبرتغاليين بصورة؛ لأنَّهم بدأوا بالبحث عن طرق تجارة بحرية تنافس تجارة المسلمين.
وقد أمن له المسلم حماية بعد أن فر من المماليك الذين دعوه للعودة إلى الشام، وغادر مكة مع إحدى القوافل المتَّجِهَة إلى جدّة، إلى إحدى السفن الهنديَّة، حيث اعتقل في عدن؛ لأنهم شكُّوا في أمره.. ليدخل في طور جديد من المغامرات.