مع تصاعد النزعات اليمينية المتطرّفة في ألمانيا، خلال السنوات الأخيرة، وبروز خطاب معادٍ للمسلمين والعرب، واللاجئين منهم على وجه الخصوص، ازداد اهتمام الباحثين بالعودة إلى صلات بلادهم مع الشرق التي بدأت منذ مشاركة كونراد الثالث هوهنشتاوفن إمبراطور الجرمان في الحملة الصليبية الثانية، ثم بظهور مدارس الاستشراق الألماني ودورها في وضع أول التصوّرات حول الإسلام وتراثه.
ستبرز لاحقاً خصوصية ألمانية في هذا السياق نتيجة للتقارب الوثيق بين السلطنة العثمانية والإمبراطورية الألمانية ودخولهما في حلف واحد في الحرب العالمية الأولى، وموقف الأخيرة من تأسيس كيان لليهود (بالأحرى لـ"الحركة الصهيونية") في فلسطين، ثم تأييد بعض النخب العربية لهتلر في صراعه مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؛ محطّات لا سبيل لتخطّيها من أجل فهم العلاقات التي جمعت ألمانيا بالمنطقة العربية.
في كتابه "ألمانيا والشرق الأوسط.. منذ زيارة القيصر فيلهلم الثاني إلى المشرق في العام 1898 حتى الوقت الحاضر" الذي صدر عن سلسلة "عالم المعرفة" بترجمة لورنس الحناوي، ينطلق الباحث روف شتاينغر (1942)، أستاذ الفلسفة والتاريخ الحديث، من "الدعوة إلى المقاومة الضروس في العالم الإسلامي ضد شعب البقالين (المقصود بريطانيا) البغيض والكذوب وعديم الضمير"، وهو القرار الذي أصدره القيصر الألماني قبيل الحرب العالمية الأولى.
بموازاة حلم ألماني باندلاع حرب إسلامية مقدسة ضد البريطانيين والذي باء بالفشل، يدرس المؤلف تأييد برلين المبكر للحركة الصهيونية، حيث كتب فيلهلم الثاني بخط يده، بتاريخ 29 أيلول/سبتمبر 1898 (بعد حوالي عام من مؤتمر بال)، إلى أحد الأمراء الألمان يخبره بتعاطفه معها، واستقباله مؤسسها تيودر هرتزل ثلاث مرات.
تطوّرت الأمور من مجرّد تعاطف غير معلن بموازاة تسهيل الهجرة اليهودية وبناء مستوطنات لهم في فلسطين، إلى طلب واضح من قبل الحكومة الألمانية إلى قناصلها بـ"دعم وتشجيع الجهود التي تخدم التطوّر الاقتصادي والثقافي لليهود"، ثم اتخاذ موقف حاسم بـ"إيقاف المذابح ومحاولات الإبادة" التي قد يتعرّضون إليها آنذاك، بحسب الوثائق التي يوردها الكتاب.
يردّ شتاينغر أسباب وقوف نخب عربية إلى جانب الحكومة النازية في الثلاثينيات، إلى اعتقاد لديها أن الألمان يدعمون تحقيق استقلال البلدان العربية من دون أن تكون لهم مطامع في أراضيهم، وهو تعليل منطقي إلى حد كبير، لكنه يجد أن سبباً آخر يكمن في "كراهية العرب لليهود" ورغبتهم في أن تقف ألمانيا معهم ضد وجودهم على أرض ليست لهم، وهنا يظهر الخلط لدى الكاتب باعتبار رفض المشروع الصهيوني الإحلالي تعبيراً عن كراهية لليهود!
على أن معاداة هتلر للسامية لم تحل دون استمرار دعمه للاستيطان اليهودي، كما يشير الكتاب إلى أنه لم يكن يولي جديّة للرسائل التي كانت تنقل إليه من قيادات عربية تعلن مناصرتها لسياساته في المنطقة، وحتى حين أراد توظيف هذه الورقة لصالحه في عام 1943 عبر تأسيس كتائب من مسلمي البوسنة في جيشه، كانت الكفّة قد رجحت لصالح أعدائه في الحرب العالمية الثانية.
تلك المرحلة هي التي أسّست في ما بعد لسياسات ألمانيا إلى اليوم، والتي يرى المؤلّف أنها رغم التغيّرات التي طرأت عليها، لكنها ظلت محكومة بـ"المسؤولية التاريخية حيال إسرائيل، ومراعاة مصالح الشركاء الأوروبيين، وبالدرجة الثالثة مراعاة مصالح الدول العربية"، مع الإشارة إلى أنها لا تمتلك نفوذاً حاسماً في مجريات التطوّرات في "الشرق الأوسط" والصراع عليه.