"متحف سكان أميركا الأصليين": ثقافات أصحاب الأرض

11 اغسطس 2017
(قارب من نسيج القصب، من المتحف)
+ الخط -

للمتحف وظيفة أولية: إحياء الذاكرة والتعليم، ولكن زيارة "متحف سكان أميركا الأصليين" في واشنطن العاصمة، تمحو صفحات من الذاكرة وتضيف صفحات أخرى. أوّل أفعال المحو تخطِئة تسمية "الهنود" التي أُطلقت على شعوب الأميركيتين، الشمالية والجنوبية، وحمّلوها للمتحف، تلك التسمية الناجمة عن سوء فهم ارتكبه "كولومبوس"، حين ظنّ أنه حين أبحر غرباً سعياً وراء حرير وتوابل وجواهر الهند، أنه وصل إلى الهند فعلاً، فهذه شعوب تمتلك أسماء، يتردد بعضها ويسجّل بعضها باحث هنا أو هناك.

وثاني أفعال المحو أن الزائر سيفاجأ بأن "هنود" سينما هوليوود الذين ظلت الشاشات تعرضهم طيلة ما يقارب القرن، عراة ومتوحشين، وقتلة، وتزرعها في عقول الملايين في مختلف أرجاء كوكب الأرض، لا وجود لهم، وأن ها هنا على الأرض، عاشت شعوب ذات حضارات ولغات وفلسفات ومدن لم تعرضها هوليوود، ولا عرضها المُرابون المهووسون الذي عبروا البحر إلى الأميركيتين، وفي أذهانهم تخيّلات أنهم "شعب الله المختار الذي أخذ تفويضاً بإبادة من أطلقوا عليهم تسمية الهنود، أحفاد الكنعانيين المغضوب عليهم الذين أبادهم إسرائيليو التوراة واستولوا على أرضهم"، كما ردد أكاديمي أميركي خلال قرون الغزو الغابرة.

ما يراه الزائر ويشدّ انتباهه بداية، تلك المصنوعات الفنية، منحوتات من المرمر، ومنسوجات من أجمل الخيوط والألوان، من أعمال شعب "النفاهو"، ذاك الذي عاش طيلة قرون متّصلة في عالم ميّزته الجبال والهضاب والأودية، في مشهد فريد كان لأشكاله ومواده دائماً حضور قوي في حياة هذا الشعب. وقد لا يعرف الكثيرون أن فناني هذا الشعب منذ سبعينيات القرن الماضي، تمكنوا من رفع أصوات شعبهم، وعبروا عن فهمهم لعالمهم على شكل منحوتات آسرة، وبدأوا بإنتاج أعمال فنية موجّهة إلى بقية العالم، نابعة من ثقافتهم وأصولها في جروف الحجر الرملي في جنوب غربي أميركا.

يقع هذا المتحف في شارع الاستقلال الطويل، الذي يشهد تقليدياً مسيرة الرئيس الجديد بعد خروجه من مبنى الكابيتول، مبنى الكونغرس الأميركي، في طريقه إلى البيت الأبيض، ويوجد على جانبية عدد من المتاحف، أبرزها متحف السكان الأصليين المميز بمعمار صممه مهندسون تعود أصولهم إلى هؤلاء السكان، فأعطوه، بمنحنياته والأحجار الجيرية التي أقاموا بها بنيته، تشكيلات تماثل أشكال الصخور التي تنحتها الرياح والمياه عبر آلاف السنوات.

ويضم المتحف مجموعات تلخص تاريخ ما يقارب 12 ألف سنة، وما يقارب 1200 ثقافة من ثقافات أصحاب الأرض الأصليين في الأميركيتين، الشمالية والجنوبية. وتراوح مواد هذه المجموعات بين صور فوتوغرافية وأعمال جمالية، ودينية وتاريخية، ومطبوعات، ومصنوعات الاستعمال اليومي، تمثل سجلاً شاملاً لثقافة هؤلاء السكان.

والواضح أن المتحف مكرّس لإحياء أصوات هؤلاء الذين أبادت غالبيتهم، وشوهت صورتهم وتاريخهم، موجات المستعمرين الغربيين بمختلف فصائلها ومذاهبها، بواسطة معارض ونشاطات متنوعة يخصّصها لجانب معين من جوانب تلك الحياة التي بقي بعضها حياً، كما بالنسبة لـ"هنود" أميركا الجنوبية، ولم يبق منها حياً سوى آثار بسيطة، كما بالنسبة لـ"هنود" كندا وأميركا.

أكثر المعارض المقامة الآن إثارة اثنان، أحدهما معرض يحمل عنوان "الكون من حولنا"، والثاني يحمل عنوان "طريق الإنكا العظيم"، وأكثر المصنوعات لفتاً للنظر نموذج لقارب من حزم القصب من صناعة تقليدية لشعب "الإيمارا" الذي كان يعيش فوق 42 جزيرة مصنوعة من القصب في بحيرة "تيتيكاكا" بين بوليفيا والبيرو. وتذكر فوراً بجزر سكان الأهوار في العراق، وقصب أهوارهم الذي صنعوا منه بيوتهم.

"الكون من حولنا"، معرض يتجوّل بالزائر بين معارف هذه الشعوب القديمة في ما يدعى "الكونيات"، ونظرتهم إلى العالم الأوسع من حولهم، أو الكون كما رصدوه في فلسفاتهم ذات الصلة بالخلق ونظام الكون، والعلاقات الروحية بين البشر والطبيعة، والنظام الشمسي.

ما يقدّمه المعرض هنا ليس شعوباً بدائية كما زرع المستعمرون في الأدمغة، فصار رد فعل الشعوب الأخرى وتصرفها تجاههم مبني على ما انغرس في أذهانهم، بل شعوب ذات ثقافات يقدم منها المعرض ثمانية، ما زال أحفادها يواصلون التعبير عن حكمة أسلافهم في لغاتهم واحتفالاتهم وفنونهم وقيمهم الروحية وحياتهم اليومية. من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، شعب "بويبلو" في نيومكسيكو، و"آنيشينابي" في كندا، و"لاكوتا" في تلال الصنوبر، جنوبي داكوتا الأميركية.

ويمثل طريق الإنكا العظيم صرحاً هندسياً لا مثيل له في التاريخ، يذهل الزائرين الذين تدهشهم، بالإضافة إلى طول الطريق، تلك الجسور المصنوعة من الحبال التي تربط القمم والمهاوي الجبلية، وتمر فوق الأنهار والبحيرات بطول 20 ألف ميل. هذا الطريق الذي يعبر الجبال والغابات الاستوائية والصحاري والأنهار، يربط "كوسكو"، العاصمة الإدارية والمركز الروحي لعالم الإنكا، بأبعد طرف من أطراف إمبراطوريتهم.

ولا يزال هذا الطريق، بجسوره وطرقاته، يخدم حتى الآن السكان الأصليين عبر كولومبيا والإكوادور والبيرو وبوليفيا والأرجنتين وتشيلي، بوصفه طريقاً مقدّساً، ورمزاً لاستمرارية ثقافة. ويذكر أن اليونسكو أدرجته على قائمة التراث الإنساني الجدير بالمحافظة عليه.

وبالعودة إلى قارب القصب، تحضر أمام مشهده في المتحف، حكاية رواها المغامر عالم الآثار والكاتب النرويجي "ثور هيردال" (1914-2002)، عن قاربه المسمى "دجلة" الذي بناه في أهوار العراق (1977)، من قصب البردي هناك، وكيف أنه استقدم عدداً من أفراد شعب "الإيمارا"، سكان بحيرة "تيتيكاكا" الماهرين في صناعة هذا النوع من القوارب الذي يعرضه المتحف.

آنذاك عرّف النرويجي الهنود القادمين من أميركا اللاتينية بنظرائهم من سكان الأهوار العراقيين، فتعاونوا معاً رغم عائق اللغة، على بناء قارب من قصب مضغوط بطول 50 قدماً. وهو القارب الذي أبحر على متنه "ثور هيردال" مع فريقه من أهوار العراق إلى الهند، ليبرهن على العلاقة بين حضارتي "ماهارابا" و"موهنجودارو" الهنديتين وحضارة سومر في العراق.

الطريف أن سكان أهوار العراق خلال عملهم مع هنود أميركا الجنوبية، ظنّوا أن مدينة "العمارة" هي موطن شعب "إيمارا" الهندية بسبب تشابه اللفظين. وحسب نظرية هذا النرويجي الذي تجول في البحار طويلاً لإثبات أن أصحاب الحضارات القديمة في الشرق والغرب تواصلوا بحراً، عن طريق سفن وقوارب بدائية، قد يكون العراقيون مصيبين، وقد يكون العكس صحيحاً، أي أنهم هم من عبر البحار قادمين من بحيرة "تيتيكاكا" واستقروا في أهوار الجنوب العراقي.

دلالات
المساهمون