يكاد يتفق المهتمون بالاستشراق على أن الإسباني-الكتالاني "علي باي" (دومنغو فرانثيسكو بادِيّا) دشّن بكتابه "رحلات عبر المغرب" انعطافا في تاريخ الاستشراق ومَسيره. وبغض النظر عن الجانب الجاسوسي في رحلةِ "علي باي"، فقد زوَّد هذا الرَّحالةُ العالَمَ الغربي بما يكفي من المعلومات عن بلاد المغرب والمشرق من حيث تاريخُها، وخيراتها الطبيعية، وجغرافيتها، وعادات أهلها، وأنظمة حُكمها، ولغاتها، إلخ... وتعدى ذلك إلى صناعة معجم صغير بربريّ-إسباني، حتى يتيسَّر للوافد الغربي على بلاد المغرب الكبير التمكّن من الكلمات الأولى للتواصل مع "الأهالي"، عاقِدًا للاستشراق بذلك صِلةً وثيقة بالترجمة.
ولا يخفى أن الاستشراقَ يروم تقديمَ الذّاتِ المُستشْرِقة معرفَتَها بالآخر الشَّرقيّ الغريب، والترويجَ لها في بلاد الغرب، أي أنه يُقدِّمُ تأويله أو خطابَه أو تمثُّلَه للعربي المشرقي كأنه حقيقة، وهو يلتقي في ذلك مع الترجمة التي تستقدم الغريب، لكنْ عبر قراءةٍ تؤوِّلُه وتَعرِضُه على القارئ في اللغةِ المستقبِلة، كأنّه حقيقةٌ وقبْضٌ على مبنى النص ومعناه في لغته الأصلية، في حين أنها إسقاطٌ لمعنى بناهُ المترجِمُ ويَعمل على إذاعتِه بين قُرّاء ترجمته.
إذن، فكلاهما حركةٌ في اتجاه الآخر الغريب، واستِقدامٌ له إلى أرْض أُخْرى للتعرُّف إليه، وكلاهما يقوم بفعل تجسيريّ يرنو إلى أنْ يربط بين طرفيْن متباعديْن ثقافيا. يرمي الاستشراق إلى إدخال الجِدَّة إلى عالَمه الغربيِّ، لأنه يأتي باستكشافاته الغريبة التي حصَّلها في الشرق بعد "تشريحه" للأخير. وتقوم الترجمة بالشيء ذاته، لأنها تُدخِل الجِدَّة -متمثِّلَةً في نصوص تنتمي إلى ثقافات أخرى- إلى لغة حاضنة.
ومهما قيل عن الترجمة بأنها لا تعدو أن تكون نسخة مُشتَبَهة أي "سيمولاكر"، فإن ما يصعُب إنكارُه هو أنها إعادةُ كتابةٍ لنص في غير لغته الأصل، وتبعا لذلك فهي بالضرورة اختراع لذلك النص المتفرِّع عن أصله، فتكون ضِمْنا شبيهةً بالاستشراق في كونه أسلوبا "للخطاب"، أي للتفكير والكلام، -وَفْق إدوارد سعيد- أوربيًّا مُختَرَعًا، بمعنى أنه ابتكارُ صورةٍ للشّرق، ليستْ هي الشرق في كل الأحوال، وهو ما يُفيد بدوره بأنه سيمولاكر، لا يفتأ يروِّجُ لخطابٍ عن جغرافية خيالية هي جغرافية ثقافية يتصوَّرُها مضادَّةً له، ويدّعي المعرفة بها والإمساك بتفاصيلها؛ لكنه في الغالب لا يُقدّمُها بموضوعية، بلْ يتوسَّل هذا الاستشراق بخطاب مُموّه ليَتبيَّن الغربُ ذاتَه بنقيضتها؛ الذاتِ المشرقيَّة، إنه يُقدِّم ما يُريدُ الغرْبُ أن يرى الشرق عليه، أي أنه خطابٌ غربيٌّ يُسقِط صورةً على الشرق، مما يُوقِعُ هذا الخطابَ في الاشتباه.
يتحرَّك الاستشراق ضمن استراتيجية مدعومة -وفق إدوارد سعيد- "بمؤسسات ومفردات وبحوث علمية، وصور، ومذاهب فكرية، بل وبيروقراطيات استعمارية وأساليب استعمارية" فيَكْشِف عن كونه تنفيذا لإرادة سابقة عليه، هي التي تُملي عليه ما تُريدُه منه، وتموِّل له مشاريعَه، فيكون جليًّا خضوعُه لسواه كُلِّيًّا أو جزئيًّا، وهو ما لا ينفي صدورَه عن إرادةٍ خاصة به، بمعنى أن فيه تداخلا بين الغيري والذاتي.
وتتحكَّم الحالُ نفسُها في الترجمة، التي لا تصْدُر عن نزواتٍ ورغباتٍ ذاتيةٍ وحدَها، مثلما يُروَّج له بطرح رومانسي حالِم، فهي لا تكون صدورا عن إعجابٍ بنص ورغبةٍ في تقاسُمِ متعتِه مع آخرين دوماً، بل تتحكَّم فيها أنساق متعدّدة هي مؤسَّسات النشْر والمَعَارض والسياسةُ الثقافية للدَّولة أو لمؤسّساتها الاستراتيجية التي تستهدف إذاعة فكر معيّن، أو ثقافة بعيْنها؛ لأن الترجمة في نهاية المطاف –وَفْق هومي بابا- هي "ترجمةٌ للتفكير في العصر الذي تأتي منه، قبل أن تكون ترجمةً لنص من النصوص".