ملجأ العامرية.. الفنان شاهداً على المذبحة

13 فبراير 2020
(عراقيون يزورن متحف ملجأ العامرية عام 2000، Getty)
+ الخط -

عند الرابعة والنصف من فجر الثالث عشر من شباط/ فبراير عام 1991، استهدفت طائرات العدوان الأميركي بقنبلتين "ذكيتين" ملجأ العامرية في بغداد، اخترقت الأولى جدران سقفه الإسمنتية فتسبّبت بإغلاق بواباته الفولاذية، وانفجرت الثانية لتصهر أجساد من احتموا فيه من المواطنين العراقيين والعرب.

في مثل هذا اليوم قبل تسعة وعشرين عاماً، وقع أربعمئة وتسعة شهداء (العدد أكبر نتيجة ذوبان الكثير من الجثامين) ضحايا الملجأ الذي ادّعت حينها واشنطن أنه "مقرّ عسكري"، لكنها عادت بعد أيام من نشر صور الضحايا ومن بينهم مئتين وإحدى وستين امرأة واثنين وخمسين طفلاُ رضيعاً، إلى التذرّع أنه قُصف عن طريق الخطأ بسبب معلومات عسكرية مضلّلة.

باستثناء إدانات متفرّقة هنا وهناك، لم يكترث أحد للمذبحة في لحظة تذرّعت فيها جيوش أربعة وثلاثين بلداً أن ما حدث مجرّد "تفصيل" لن يثنيها عن مواصلة الحرب ولم يَسمح حتى اليوم بمحاسبة الجاني، بل إن الاحتلال الأميركي أصرّ على نزع رمزية "العامرية" الذي أقيم فيه متحف يخلّد ذكرى ضحاياه، بتحويله إلى مقرّ لأحد الأحزاب ثم ثكنة عسكرية للجيش، واليوم هو مقرّ للمجلس البلدي لمنطقة العامرية.

الطبيب والفنان العراقي الرائد علاء بشير (1939) أحد الذين زاروا المكان بعد ساعة من القصف الأميركي، وسجّل شهادته لتلك اللحظة التي شاهد فيها رجال الإطفاء وهم ينقلون الجثث المتفحّمة للأطفال والنساء بينما كان الدخان لا زال يتصاعد من جزء من الملجأ حينئذ، وهو يوضّح في تصريحاته إلى "العربي الجديد" أن "مجزرة العامرية تماثل مجازر الاحتلال الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني وبحق الإنسانية، والتي لا يبرّرها إلّا الإنسان الغبي أو الخائن".

ويشير بشير إلى أنه صمّم ونفّذ نصب "ملجأ العامرية" عام 2002، والذي استغرقه العمل فيه قرابة عام، مختزناً ذاكرته لمشاهد إخراج جثامين على هيئة كتل متفحمة من المكان بينما كان ذويهم وأطفالهم يصرخون ومن خلفهم سياج تحيط بالبناء لفترة طويلة تطلّبها العمل لفتح الملجأ، ويُظهر العمل رأس إنسان من بين قوالب حجرية صلبة تطوّقه، بينما الوجه يبدو مشدوداً على نحو قاسّ ومتوتّر بظلال كثيرة، ويُطلق الفم صرخته الأزلية.

منحوتة "ملجأ العامري" للفنان العراقي علاء بشيريستعيد بشير لـ "العربي الجديد" قدوم وفد فنانين بلجيكيين إلى العراق بعد انتهاء حرب العراق الثانية للتعرّف على الفنانين الذين يعيشون الكارثة التي لحقت ببلادهم متوقعين أن ينتجوا حركة جديدة في الفن على غرار تجارب أوروبية أنتجت تمرّداً على واقعهم وظروفهم عقب الحروب، لكنهم فوجئوا أن فسماً كبيراً من فناني العراق يرسمون بورتريهات وأحصنة تركض أو لوحات تجريدية، ما أثار لديهم العجب.

يروي الفنان العراقي هذه الحادثة للإشارة إلى قصور الفن العراقي، والفن العربي عموماً، في التعبير عن الاحتلالات والقضايا التي يعيشها الإنسان العربي، داعياً إلى تحويل الثالث عشر من شباط/ فبراير إلى يوم وطني: "ليس فقط لاستذكار من استشهدوا في ملجأ العامرية، بل باعتباره ذكرى للمستقبل وهزّة للضمير الإنساني لما تحمله من دلالة رمزية مكثّفة حتى لا ينساه العرب جميعاً، وتشكّل لديهم نقطة انطلاق إلى مستقبل أفضل، ويعيدون النظر في ثقافتنا وسلوكنا من أجل التحوّل المنشود، فصفة المثقف يجب أن لا تلتصق بالمتعلّم، إنما بالإنسان الذي يؤدّي ما يؤمن به".



يوضح بشير إن ارتفاع منحوتته "ملجأ العامرية" نحو تسعة أمتار وعرضها ثلاثة أمتار، وقد حاولت الحكومة العراقية تحت الاحتلال إزالته من المكان، لكن أهل الضحايا تمكّنوا من حمايتها حيث أقاموا سوراً حولها ولا يزال موجوداً إلى اليوم، معبّرين عن ارتباط ذاكرتهم الشعبية بالنصب، بينما تمّ تدمير منحوتته الأخرى "اللقاء" التي كانت منصوبة في شارع المنصور.

نجا أحد عشر شخصاً فقط من المجزرة وُوثقّت روايتهم حولها، والتي تستعيدها وسائل إعلام قليلة في ذكراها السنوية، ومعها روايات الشهود الذي كانوا في الجوار، بينما يلّف الصمت بقية أيام العام مع التغييب المتعمّد لجرائم أميركا بحقّ الشعب العراقي، ليظلّ الفن وحده القادر على تخليد الفاجعة والتمسّك بالأمل والمقاومة.

المساهمون