تاريخٌ من الانقطاعات، ربما هذا هو التوصيف الأكثر دقّةً لتجربة المجلّات الثقافية في الجزائر؛ إذ إنَّ جميعها توقّف بعد سنواتٍ قليلة من إطلاقها، دون أن تنجح محاولاتُ بعثها من جديد. نتذكّر هنا مجلّة "آمال" التي أسّسها الكاتبُ الجزائري الراحل مالك حدّاد عام 1969، وكانت تصدر عن وزارة الثقافة التي عادت لإطلاقها عام 2007 في فترة وزيرة الثقافة السابقة خليدة تومي، ثمّ في 2016 خلال فترة عز الدين ميهوبي، لكن لم يصدُر منها سوى عددٍ واحد أو عدَدين في كلا المرّتين. ينطبق ذلك أيضاً على مجلّة "الثقافة" التي أطلقتها الوزارة عام 1971، ثمّ توقّفت في عددها الثاني بعد المئة، قبل أنْ تعود مجدّداً عدّة مرّات وبصدور متقطّع؛ في 1994، وفي 2004 و2007، قبل أن تتوقّف نهائياً.
هذا المصيرُ عرفته أيضاً العشراتُ من المجلّاتِ التي أصدرتها مؤسّساتٌ وجمعيات ثقافية مستقلّة. وكان غيابُ التمويل هو السبب المعلَن دائماً. وإنْ كانت التجربة تؤكّد أن توفُّره لم يكن كافياً لنجاح تجارب أُخرى، كتلك التي خاضتها "المؤسّسة الوطنية للفنون المطبعية" الحكومية، حين أطلقت سنة 2015 مجلّةً ثقافية بعنوان "ثقافات" توقّفت في عددها التجريبي، قبل أن تعود بعد سنتَين من ذلك، لكن بعددٍ يتيم.
تحضر هذه الخلفية مع إعلان وزارة الثقافة الجزائرية، يوم الخميس الماضي، عن إطلاق مجلّة ثقافية جديدةً تحمل عنوان "انزياحات"، واعدةً بأنها "ستمثّل منبراً ثقافياً مفتوحاً لكلّ الجزائريّين ضمن ما يعني الثقافة الجزائرية ويثريها ويثمّنها"، وفق تعبير وزيرة الثقافة مليكة بن دودة التي قالت - في تصريحاتٍ صحافية - إنَّ رهانها لن يقف عند حدود إطلاقها والاحتفاء بها، بل سيُعنى باستمراريتها وانتشارها وتطوير مضمونها.
لكن، ما هي الضمانات التي تُقدّمها المجلّة الجديدة للقارئ كي لا تتكرّر التجارب السابقة؟ سؤالٌ يُجيب عنه مدير تحريرها، الكاتب والمسرحي، احميدة عياشي، قائلاً إنها ستعمل على الاستفادة مِن أخطاء المجلّات التي صدرت في السنوات الأخيرة، والتي يرى أنها "كانت تفتقد إلى الاحترافية وارتبطت بذهنية المناسباتية والشِللية، وكان محرّكُها الأساسي هو توزيع الريع في ظلّ المناسبات الثقافية الكبرى التي ميّزتها البهرجة ولم تُخلّف أيَّ أثر، بدليل أنَّ تلك المجلّات لم تصمُد واختفت بعد عدَدين أو ثلاثة".
تضمّن العددُ الأوّل، الذي جاء في 134 صفحةً، ملفّاً رئيسياً بعنوان "نهاية الإنسان ليست الآن" وفيه مقالات قاربت أزمة فيروس كورونا المستجدّ مِن زوايا أدبية وفنّية وفلسفية؛ من بينها: "كتابة الكارثة" لمحمّد بن زيان، و"سوريالية أم موتٌ للمواقع؟" لإسماعيل مهنانة، و"الفن ومرثية مدينة الإنسان" لأحمد الدلباني، و"الوباء وطرح الأسئلة الفلسفية" للونيس بن علي، و"فيروس كورونا: حاجة البشرية إلى عولمة بديلة" لسعيد هادف، إضافةً إلى مقالٍ لأنيسة محمدي بعنوان "طاعون كامو" تساءلت فيه عن حقيقة وجود أدبٍ خاصٍّ بالأوبئة.
تزامن الإعلان عن إطلاق المجلّة مع "يوم العلم" (16 نيسان/ إبريل) الذي يُحيي فيه الجزائريّون ذكرى رحيل المصلح الاجتماعي والديني عبد الحميد ابن باديس (1889 - 1940). وقد تضمّن العددُ ملفّاً حوله، من بين المقالات التي نُشرت ضمنه: "كيف نقرأ تجربة ابن باديس اليوم؟" لمحمد بن زيان، و"الروحية والثقافية ورمزية الرأسمال الباديسي" لمحمد يس، إلى جانب مقالٍ بعنوان "يوميات الشيخ عبد الحميد بن باديس" لعبد الملك حدّاد.
وتضمّن العددُ، أيضاً، حواراتٍ مع المؤرّخ وعالم الاجتماع أحمد رواجعية من بين ما يقول فيها إنَّ "السياسي أصاب المواطن العادي بالعدوى وصارا سواسيةً في الفساد"، ومخرج الأفلام الوثائقية عبد القادر مام، والمخرج المسرحي محمد شرشال، إضافةً إلى مقالاتٍ حول "نساء الجزائر وسرديات العنف"، و"السينما الجزائرية الجديدة"، وبورتريهاتٍ لكلٍّ من الرسام النمساوي غوستاف كليمت، والكاتبة والرحّالة السويسرية إيزابيل إيبرهارت، والموسيقي الجزائري عبد العزيز عبد الله المعروف باسم عللا، إلى جانب زوايا كتب فيها كلٌّ من عمر بوساحة، وحميد زناز، ولحسن تركي.
كذلك احتوى العدد، الذي اطّلعت "العربي الجديد" على نسخة منه، على كرّاستَين باللغتَين الأمازيغية والفرنسية؛ تضمّنت الأولى عدداً من المواضيع من بينها حوارٌ مع الموسيقي الأمازيغي رابح أوفرحات، والثانيةُ بورتريهاً لرائد الموسيقى الشعبية الشيخ محمّد العنقى في ذكرى رحيله الثانية والأربعين، وملفّاً حول الكاتب الجزائري محمّد ديب في ذكرى ميلاده المئة، ومن بين موضوعاته حوارٌ كان أجراه معه الصحافيّ والمخرج محمد الزاوي.
تحمل المجلّة شعار "فكرة التغيير" الذي يقول مدير تحريرها، في حديثه إلى "العربي الجديد"، إنه "يُلخّص رؤيتها الفلسفية والجمالية، وسعيها إلى إحداث قطيعةٍ مع ثقافة الريع والانغلاق والتقليد، من أجل ترسيخ تقاليد الانفتاح على التنوّع والاختلاف"، مُضيفاً: "لا نُريد أن تكون منبراً دعائياً للسلطة، بل نسعى لأن تكون تمثيلاً للثقافة الجزائرية بما تتضمّنه من فسيفساء ثقافية وطاقات إبداعية، كما نسعى إلى احترام التراكم الكمّي والنوعي، والتواصل بين مختلف الأجيال والثقافات واللغات في الجزائر".
هنا، يُشير احميدة عياشي إلى عنوان المجلّة (انزياحات) بالقول إنه "يعكس حرصاً على أن تندرج المجلّةُ ضمن خطّة ثقافية تعمل أن تكون منبراً لثقافة التغيير في ظلّ ما أحدثه الحراك الشعبي، ويحمل رسالةً مفادها ألّا بديل سياسياً دون بديل ثقافي يُحدث القطيعة مع الشعبويات".
أثار الإعلان عن صدور المجلّة - التي لم تُوزّعَ ولم تُتَح إلكترونياً حتى الآن - العديد من الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ كتب الصحافي محمّد إيوانوغان في سياق تعليقاتٍ حول عنوانها: "لا يهمّ عنوان مجلّة وزارة الثقافة. المهمّ كم يقبض "المنزاحون" الذين يكتبون فيها. النظام الريعي، سواء ارتدى ثوب الحداثة أو ثوب الباديسية، لم يعُد صالحاً للبلاد والعباد"، وعلّق الصحافيّ محمود بلحيمر: "إصدار وزارة الثقافة مجلّةً اعتماداً على المال العام خطأ وعملٌ تجاوزه الزمن. إنهم لا يزالون في سبعينيات القرن الماضي. ينبغي وقف المجلة وحلّ وزارة الثقافة، لأن الثقافة ليست في حاجة إلى وزارة أصلاً"، بينما كتب الناشط الثقافي عمّار كساب: "لن يكون هناك أي (انزياح) عن عمل المؤسّسة الرسمية، لأنّ كلّ ما تقوم به هذه المؤسّسة يهدف إلى الهيمنة على الفعل الثقافي".
ردّاً على الانتقادات التي أثارها الإعلان عن المجلّة، يقول احميدة عيّاشي إنه كان يتمنّى لو انصبَّ النقاشُ حول محتواها وشكلها الفنّي، والخطوة التي أنجزتها، وإنّ كثيراً ممّن يُوجّهون انتقاداتهم اليوم كانت "أسماؤهم تتصدّر المهرجانات والتظاهرات الرسمية التي فشلت في تحقيق أيّ منجَز"، مضيفاً: "يبدو أنَّ كلمة التغيير لها دور في هذا الفزع الذي أثاره إصدار مجلّة جادّة وبالمقاييس المعمول بها عالمياً".
ويختم المتحدّث بالقول: "من المخجل ألّا يكون لبلد مثل الجزائر، وهو بحجم قارّة، مجلّة ثقافية رصينة، وليس مجرّد نشرية لا تعكس الثراء الثقافي الوطني، في حين كان لديها مجلّات في نظام الحزب الواحد".
يُشار إلى أنَّ وزارة الثقافة أعلنت أنَّ العدد الأوّل من المجلّة سيكون متاحاً بشكلٍ مجّاني على الإنترنت بسبب الحجر الصحّي الذي فرضه وباء كورونا، كما أعلنت عن التحضير لبثّ فترةٍ إذاعية يومية على "الإذاعة الثقافية" تُعنى بالشأن الثقافي تحت عنوان "انزياحات أف أم".