ثمة روايات مؤسسة في الثقافة العربية، شغلت ليس فقط دارسي الأدب والنقاد والقراء، بل والمسرحيين وصناع السينما؛ وليس أشهر في هذا السياق من أعمال نجيب محفوظ وغسان كنفاني، ومؤخراً أصبحت هذه الأعمال تستقطب الفنون البصرية التشكيلية من رسم وتجهيز.
في العام الحالي فقط، ظهرت رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" بصرياً مرتين؛ الأولى في تصورات وضعها الفنان السوداني محمد عمر خليل، وصدرت في كتاب صدر عند دار "دنقلا" في مارس/آذار الماضي، كما أقيم لأعمال الحفر والغرافيك والرسم التي جسّدت رحلة شخصية مصطفى سعيد معرض في لندن.
أما النسخة الثانية، فيُقام لها معرض ما بين السادس من الشهر الجاري وحتى 21 منه، في غاليري "P 21" في لندن أيضاً، وهي تصورات قدمتها الفنانة السودانية ريان النايل تحت عنوان "أفرابيا واقعية سحرية"، أي أنها بشكل أو بآخر تقترب من عوالم السوريالية والعبث واللامعقول، من دون أن تغادر أرضية الرواية وواقعها.
تجمع الفنانة في مفردة "أفرابيا" Afrabia الأفريقي مع العربي، فموضوعها الأساس هو ازدواجية الهوية، وتبني خطابها البصري على رحلة البطل، فليس مستغرباً أن يقام معرضا خليل والنايل في لندن؛ حيث أنها المدينة التي تدور فيها الوقائع المؤسسة للأحداث في "موسم الهجرة إلى الشمال".
يجمع المعرض سلسلة من المطبوعات الرقمية التي تستكشف الأفكار حول الهويات متعددة الثقافات والمهجّنة، وتقترب الأعمال مما يطلق عليه المفكر الهندي هومي بابا "الفضاء الثالث"، حيث تتبع النايل مصطفى من السودان إلى لندن وصراعه مع هويته العرقية المتناقضة والتي تتطور باستمرار.
تخاطب النايل في أعمالها كل من ينتمي إلى الفضاء الثالث؛ من حاملي الهويات المهجنة أي المهاجرين الذين تبنوا منازل وأوطاناً جديدة وبالضرورة هويات جديدة. إنها تخاطب جميع الأفارقة العرب، وربما كل من يعيشون في الغرب وأصولهم تنتمي إلى مكان آخر.
النايل نفسها أحد هؤلاء؛ عن ذلك تشرح في بيان معرضها أن اهتمامها بالرواية مستمد أيضاً من انشغالها المستمر والمتنامي بهويتها البريطانية السودانية الهجينة والصراع الذي يأتي معها. على وجه الخصوص الصراع من أجل وصف الهوية السودانية للغربيين؛ فتطرح الفنانة أسئلة من نوع: كيف يمكن وصف خلفياتنا العرقية المعقدة في الوقت الذي لا يزال فيه تاريخها متضارباً؟ كيف نحافظ على جميع الهويات في وقت واحد؟ أما الإجابة فتعتقد النايل أنها عثرت عليها في الواقعية السحرية.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تجرب فيها النايل عصا الواقعية السحرية؛ ففي أطروحة الماجسيتر التي أنجزتها طالبة العمارة في جامعة "غرينتش"، أعادت تخيل شارع "تشيرش ستريت" في بادنغتون وحولته إلى الهوية الأفريقية العربية بالوسيلة نفسها.
تعيدنا أسئلة النايل إلى رواية صالح مرة أخرى، العمل الروائي المؤسس للأدب العربي المابعد الكولونيالي، فهي إلى جانب ثورتها على تقنيات السرد التقليدية، تكتسب الآن أهمية ربما تفوق تلك اللحظة التي ظهرت فيها عام 1967، إذ تتطابق مع راهن المهجر اليوم؛ كأنما ينظر فيها المنفيون إلى مرآة.