الموالد في مصر: حدائق للتديّن الشعبي

22 يونيو 2016
(إحياء المولد النبوي في القاهرة،2010، تصوير: خالد الدسوقي)
+ الخط -

للبسطاء قلقهم الوجوديّ أيضاً، حتى وإن لم ينشغلوا بالكتابة عنه أو تحليله منهجياً كما يفعل المثقفون إزاء القضايا الوجودية. لكن التعبير عن هذه القضايا يظل حاجة لدى جميع الناس، مهما اختلفت أوساطهم الفكرية والاجتماعية، لذا فإن أشكال حضورها هي التي تتنوّع.

في الأسبوع الماضي، نظّم "مركز دال للدراسات" في القاهرة ندوة بعنوان "المولد وتمثلاته فى البنية الذهنية" ضمن ملف التديّن الشعبي، الذي يناقشه على مدار شهر رمضان. ندوة حاضر فيها كل من سامح إسماعيل، مدير وحدة الأبحاث في المركز، والباحث عبد الله أحمد، للوقوف على أبعاد فكرة المولد عند المصريين، والتي تبدو كظاهرة قديمة غير أنها ذات تجلّيات حديثة أيضاً.

اعتبر أحمد أن استدعاء الله في الصورة البشرية عند المسيحيين وظهور الموالد عند المسلمين هي نتاج كون الإنسان بطبيعته لا يرتاح لفكرة المطلق والبعيد، فهو بحاجة إلى هذا الوسيط بين الإلهي والبشري، واعتبر فكرة الموالد حالة تقاطع بين المشهدين الاجتماعي والديني في مصر.

من جهته، يستبعد إسماعيل اعتبار الموالد مجرّد كرنفالات واحتفالات شعبية، إذ وصفها بالفكرة الإنسانية الناتجة عن الأسئلة الصعبة، التي يحتاج الإنسان فيها إلى تفسيرات تريحه من القلق الوجودي، وهو ما يتجسّد في عدة إشارات اختلقها الإنسان كالاتفاق على ولي تتبيّن على يديه الكرامات فيطمئن لها قلبه.

يرفض إسماعيل اتهام الموالد بشكل خاص والتديّن الشعبي، بكل تجلياته، بالخرافات، إذ يقول "كيف ندين شكلاً من التديّن يقدر على إحداث توازن داخل الإنسان البسيط، الذي لا يعيش أبعد من قريته وظروفه الصعبة وبنيته الذهنية؟"، ليصل إلى أن التديّن الشعبي هو حالة وسطى بين التديّن الأصولي والتديّن الإنساني العقلاني، لافتاً إلى ضرورة تقييم الحالة بشكلها السوسيولوجي الفكري وليس بمرجعيتها للدين الأساسي.

في مصر، لم يوجد تنافر بين المتحدّثين باسم الديانات (من علماء ورجال دين ورؤساء مذاهب) وبين فكرة الموالد إلا مع الجماعات الأصولية القليلة، التي ترفض هذه الفكرة بشكل نظري.

ففي الموالد المسيحية، يحتفل الرهبان مع البسطاء المسيحيين بمولد سيدي عبد المسيح المناهري المشهور بإحياء الإوزة، ويحتفل الشيوخ المسلمون والمتصوفة بمولد سيدي الدسوقي أو بمولد سيدي الرفاعي.

انفتحت كلمة سامح إسماعيل على نماذج من التديّن الشعبي خارج مصر والعالم العربي، إذ تحدّث عن جماعة "أمة الإسلام" في أميركا، والتي انتمى إليها الملاكم الشهير، محمد علي كلاي، في ستينيات القرن الماضي، وهي الجماعة التي أخذت من الإسلام مبدأ مساواة السود مع البيض واشتغل منظّروها على تطبيق الإسلام على البنية الاجتماعية للسود في المجتمع الأميركي، كما أشار هنا إسماعيل إلى تواصل تقديس مؤسس الجماعة، والاس فات، إلى اليوم.

تناول إسماعيل أيضاً أثر الموالد في إنعاش الأماكن، التي تقام فيها، إذ يقول "المنطقة التي تقام فيها الموالد تصبح منطقة مركزية على الصعيد الاقتصادي"، وهو ما نلاحظه في المحافظات التي تقع فيها كالأقصر وطنطا ودسوق والإسكندرية وغيرها، وانتظار أهل هذه المدن من مختلف انتماءاتهم الدينية هذه المناسبات.

تتواتر الروايات، التي تحاول توثيق بدايات الموالد في مصر، فالبعض يُرجعها إلى عهد الفراعنة استناداً إلى نقوشات تظهر احتفالات بقصة إيزيس وأوزوريس، إلا أن البعض يعيدها إلى فترة وصول الديانات السماوية إلى مصر، ومنها اليهودية إذ كان هناك مولد لأبو حصيرة اليهودي، ظلّ يقام حتى وقت غير بعيد.

ثمة روايات أخرى. تقول إحداها أن ذا النون المصري المتوفى 245 هـ هو أول من أقيمت له الموالد، أو يربطون هذه البداية بمولد السيد البدوي أو مولد الملك الصالح، وغيرها، لكن يبدو أن الموالد بالفعل قديمة ومهمة إلى درجة أن البعض يحاول أن ينسب الموالد وبدايتها إلى دينه أو إلى انتمائه التاريخي إلى حقبة معينة.

إثر الندوة، قُدّم فيلم "مدد" الذي أنتجه مركز "دال" وأخرجه حسين المنباوي. فيلم عَرض بشكل موسّع لمظاهر التصوّف التي تعدّ الموالد من بينها، إلا أن القائمة تتّسع لأشكال أخرى كرقص المولوية وجلسات التأمل.

من بين الشهادات التي يقدّمها الفيلم ما جاء على لسان الكاتبة، ضحى عاصي، مؤلفة كتاب "محاكمة مبارك بشهادة السيدة نفيسة"، إذ تتحدّث عن تفاصيل عاشتها في أثناء تأليف العمل، من بينها التقاطها لعدد من الرسائل أمام مقام السيدة نفيسة من تلك التي يضعها المتبرّكون.

تقول إن إحدى تلك الرسائل كانت من مواطن مصري يطلب العلاج على نفقة الدولة، ويشكو من عدم رد الحكومة على عشرات الطلبات، التي يقدّمها، حتى أنه قرّر أن يقدّم خطابه الأخير للسيدة نفيسة طالباً منها الرد.

لعل هذه الحكاية تضيء أسباباً أخرى لنزوع شق موسّع من الشعب المصري إلى فكرة الموالد واللجوء إلى المقامات بعد يأس من حال يزداد قسوة، وضعف إنساني يتزايد، ودولة قلّما تلبي مواطنيها.

المساهمون