الأكراد وثقافتهم في مسلسل النظام: إقصاء بالأحضان

09 سبتمبر 2016
النظام يحتفل بـ"عيد النيروز" ("غيتي"، 2015)
+ الخط -
أقصى النظام في سورية أبرز الثقافات غير العربية في نسيجه الاجتماعي؛ ومن أبرزها: الكردية والآشورية والشركسية، إذ اشتغل بحديّة القومية البعثية على دفن تلك الأصوات حتى بداية الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، حين سعى إلى تعديل سياساته السابقة عبر إعادة تجنيس الأكراد، بداية في دير الزور في العام نفسه، في محاولة منه لامتصاص "الأحقاد القديمة"، كما تبنّى إعلامه خطاباً جديداً حول القضية الأرمنية، من خلال استضافة فعاليات وشخصيات أرمنية، كما وجّه المؤسسة الثقافة الرسمية لـ"الدفاع" عن الأرمن وثقافتهم.

الخطوات الأخيرة أتت فجأة بعد أن كان الاهتمام بثقافة "الأقليات" غائباً تماماً، إذ لاحق النظامُ الشخصيات السياسية والثقافية الكردية، مثلاً، وابتز الناشطين منهم من أجل قضاياهم السياسية والثقافية.

يبرز السؤال اليوم كيف يمكن للمكونات الثقافة السورية أن تحافظ على هويّتها - بالمعنيين الخاص والجامع - في ظلّ الصراع الجاري، حيث أفرز جزء منها، كالأكراد، فصائل مسلحة تسعى إلى تحقيق حكم ذاتي، وما هي التداعيات المحتملة في المستقبل على المكوّنات الثقافية السورية كافةً؟

"ثمة مثقفون أكراد كان لهم نشاطهم الفاعل في الثقافة السورية، منهم مشعل تمو والشاعر إبراهيم اليوسف والشاعر مروان عثمان وابراهيم محمود، حيث لم يكن الحضور الكردي مغيباً تماماً، رغم الممنوعات اللامتناهية التي كانت تعترضه، يقول الصحافي، سالار أوسي، الباحث في الشأن الكردي، مستدركاً أنه "كان حضوراً "تحايلياً" غالباً، فلم يكن متاحاً للكردي الإعلان عن ذاته ثقافياً، دون مواربة تقتضيها الظروف السياسية في البلاد، ولم يكن مسموحاً له، مطلقاً، الكتابة أو طباعة نتاجه الأدبي بلغته أو حتى باللغة العربية، شريطة ألا يمّس نتاجه الحالة الكردية في أي من جوانبها".

"لم ينطبق الحال على الكتابة وحسب، بل مسّ كامل الثقافة الكردية وصولاً إلى الغناء والرقص وحتى المواضيع التراثية"، يضيف أوسي، الذي يشير إلى أن بيروت شكّلت ملاذاً ممكناً للكتّاب والمثقفين الكرد، لطباعة نتاجاتهم التي كانت تعود إلى سورية بطرق "غير شرعية"، ليتم توزيعها سراً بعد ذلك، لافتاً إلى أنه فعل ذلك حين نشر كتابه "الكرد في الوعي الثقافي العربي".

"ثمة فئة "غامرت" بالكتابة بلغتها الأم، وكانت معاناتها مضاعفة نتيجة المنع الذي طال اللغة الكردية على مدى عقود، كتابة ومحادثةً وتعليماً، ورغم ذلك أسّست تلك الفئة بنياناً حديثاً للثقافة الكردية، وساهمت في إحيائها بلغتها، ونقلها من الحالة الشفاهية (نتيجة المنع)، إلى الحالة المكتوبة المدوّنة"، يتابع الكاتب الكردي حديثه لـ"العربي الجديد".

ويؤشر أوسي إلى أن الفن التشكيلي الذي يحتمل الرمزية أكثر من الإبداعات الأخرى، ظهرت فيه عشرات الأسماء الكردية التي تركت بصمتها الواضحة في المشهد التشكيلي السوري.

أما في خصوص ظهور الفصائل المسلحة في الحياة الكردية السورية؛ فيؤكد أوسي أنها حالة مجتمعية برزت في سياق ما تمرّ به سورية في السنوات الخمس الأخيرة، "وهذا أمر يدخل في إطار السياسة التي لها حساباتها الخاصة، التي سوف تسري على مكوّنات المجتمع السوري عموماً، بمن فيها الكرد".

في سياق متصل، ساهم ظهور الفضائيات الكردية مطلع القرن الحالي (أول فضائية كردية بثت من بلجيكا عام 1994)، في زيادة الاهتمام بالثقافة الكردية ومحاولة فتح أبوابها المغلقة خارج حدود المنع في الداخل السوري، لكن ذلك لم يؤثر في مسيرة المنع الممنهج، التي سلكها النظام السوري بحق الأكراد، بحسب وصف الشاعرة السورية الكردية، هيفين مشعل تمو.

تشير تمو إلى أن نظام البعث عمِل بحكم عقليته القومية المنغلقة طيلة نصف قرن على قتل الحياة السياسية والثقافية في المجتمع، بحيث عانت منه جميع مكوّنات الشعب، والكرد خاصةً، مما دفع إلى انتقال غالبية الأنشطة الثقافية والمجتمعية العامة من العلن إلى السرية غالباً، ومنها "منتدى جلادت بدرخان الثقافي" في مدينة القامشلي، كون أي نشاط كان بحاجة إلى عشرات الموافقات الأمنية والشروط.

تلك الضغوطات لم تمنع الأكراد من المحافظة على خصوصيّتهم ومناسباتهم، كالاحتفال بيوم المرأة وعيد النيروز ويوم الصحافة، رغم أن "قضية الأكراد تعرّضت لغبن واضح، وجرى التعامل مع الكردي بوصفه مواطناً من الدرجة العاشرة، ممنوع عليه حتى المطالبة بحقوق ثقافية لا تُسمن من جوع" على حد قول تمو.

ولفتت الشاعرة في حديثها مع "العربي الجديد" إلى أن الكردي مُنع من أن يطالب بجنسية حُرم منها، ما نتج عنه حرمان من التعليم لجميع "مكتومي القيد" – الكرد الذين لا يحملون جنسية سورية وعددهم بمئات الآلاف - كما مُنع من إحياء مناسباته القومية وحتى الاجتماعية.

تقترح هيفين "حلاً" يقوم على نصوص دستورية تقر بالشعب الكردي في سورية، وتعترف بلغته وثقافته، وهذا يتطلب "ضمانات" لأن تكون سورية المستقبلية للجميع من دون إقصاء؛ سورية تعددية مدنية لا مركزية، نظراً إلى طغيان شعور عام "يهدّد قوميتها" بوصفها محاربة من الآخرين.

يقول الفنان التشكيلي السوري، دلدار فلمز، الذي ولد في محافظة الحسكة، شمالي البلاد "في دولة فاشية كانت الكلمة العليا فيها للمؤسسة اﻷمنية، وتقوم سياستها على قمع الجميع باسم الجميع، لا يمكن ﻷية ثقافة محلية أن تزدهر بل على الجميع أن يضحّوا بثقافاتهم على مذبح ثقافة رسمية سلطانية تعود إلى العهد اﻷموي، فقد كانت كل محاولة بعث أو تنمية أي ثقافة مغايرة تُقابل بأشد أنواع العنف، وهذا ما حدث للكرد بشكل مباشر وللأرمن واﻵشوريين والعلويين والدروز بشكل غير مباشر".

بالنسبة إلى الكرد، فإن "اختلافهم العرقي اللغوي الجغرافي عن باقي المكونات السورية منحهم فرصة تاريخية واستطاعوا مع قيام الثورة السورية أن ينأوا بأنفسهم عن الصراع"، يضيف دلدار، الذي يعرض كيف استطاع الأكراد إعلان إدارة ذاتية في الشمال السوري من طرف واحد، وبموازاة ذلك تشكيل قوات عسكرية قوية وفعّالة في مواجهة اﻹرهاب: "سنحت لهم الفرصة للمرة اﻷولى في تاريخهم لتطوير ثقافتهم وتنميتها عبر إصدار المطبوعات وتكريد التعليم وغيرها".

يحضر المشهد الكردي في الحدث السوري، اليوم، إلى الواجهة وعلى ملامحه تظهر بوادر تقسيم المصالح الدولية؛ ثمة هجمة إعلامية وعسكرية من النظام وبعض الفصائل المعارضة لانتقاد وتفنيد التجربة الكردية، التي لم تواكبها نهضة نقدية تشرّح الأبعاد الثقافية والاجتماعية لتلك "الصحوة الخاسرة" في ميدان الدم السوري.

المساهمون