تسلك الطواقم التابعة لشرطة الدولة في العلوم الجنائية منهجاً علمياً لجمع الأدلّة، وفحْص المعلومات التي تقود في علم الجريمة إلى معرفة سبب وقوع حادثة ما، بهدف مكافحة الجريمة وتوفير حيثيات المحاكمة. ولكن ماذا لو كان الجاني هو الدولة نفسها، أو قوّة استعمارية محتلّة؟
في الحالة الفلسطينية، لا حاجة إلى دليل على الجرائم الإسرائيلية أكثر من فكرة وجود الاحتلال. هذا المفترض، ولكن مع ضعف دور "محكمة الجنايات الدولية" وغيرها من المؤسّسات الدولية، يسعى مشروع "وكالة الاستقصاء المعماري" Forensic Architecture، وهي مجموعة بحثية تتخذ من "جامعة غولدسميث" في لندن مقرّاً لها (2010)، إلى توظيف (العمارة والقانون والفن) للتحقيق في الأدلّة التي يخلّفها الاحتلال أو أيّ نظامٍ قمعي، من أجل تصدير القضايا للرأي العام وتحريك الإجراء القانوني تجاه الضالعين فيها.
تعتمد "الوكالة" في تحقيقاتها على تقصّي الآثار المادية والشهادات الإنسانية، بقلْب الأدوات والتقنيات الحديثة التي تستخدمها الدولة في قمع ومراقبة المواطنين، لصالح الطرف الثاني لمواجهة الأنظمة، وفضح جرائمها.
"مؤسسة عبد المحسن القطّان" في بلدة الطيرة غربَي رام الله، افتتحت السبت الماضي معرضاً فنياً بعنوان "الاستقصاء المعماري: نهج مضاد"، يستعرض ثلاثة تحقيقات للوكالة الاستقصائية، حول التقنيات المركّبة، والتصميم ثلاثي الأبعاد، معتمداً على العناصر السمعية والبصرية، بالإضافة إلى الحسّية من خلال تقنية اللمس للتحكّم في بعض شاشات العرض.
في تحقيق "قنبلة غاز ثلاثية الأمشاط" الذي رُصدت فيه عبوات "الغاز المسيل للدموع" (غاز سام) المصّنعة من قِبَل شركة "سفاريلاند" (Safariland)، تُستخدم في تحليل العبوات المرصودة تقنيات "التعلّم الآلي" وإنتاج الصور التركيبية، و"النمذجة الواقعية".
ويصف قيّم المعرض يزيد عناني، في حديثه لـِ "العربي الجديد"، كيف استطاعت الوكالة باستخدام برامج تصنيف تعتمد على الرؤية المحوسبة، جمْع وتحليل استخدامات قنابل غاز "سفاريلاند" من خلال الصور التي تشاركها الصفحات الفلسطينية عبر الإنترنت. يقول عناني "الدول استخدمت هذه التقنية للتعرّف إلى المواطنين الذين لا ترغب بدخولهم أراضيها، أما الوكالة فاستخدمتها للتعرّف إلى القنابل المحرَّمة دولياً التي تصنّعها أميركا وتبيعها إلى إسرائيل".
كان ذلك بعد أن كشفت الوكالة علاقة وارين ب. كندرز نائب رئيس مجلس أمناء "متحف ويتني للفن الأميركي" بالشركة، وضلوعه بالقنص المميت الذي يمارسه جيش الاحتلال ضدّ المواطنين الفلسطينيين في غزّة، من خلال شركة (Sierre Bullets) الأميركية. فكان من تداعيات عرض الفيلم في "متحف ويتني"، إرغام كندرز على الاستقالة من مجلس الإدارة.
أما العمل الذي حمل عنوان "التعذيب في سجن صدنايا"، فاعتمد على الشهادات السمعية والحسّية لبعض الناجين من السجن السوري (صيدنايا) الذي لقي فيه عشرات الآلاف حتفهم. استعاضت وكالة الاستقصاء المعماري عن الصور غير المتوفّرة لداخل السجن، بشهادة خمسة سجناء سابقين، عن طريق تقنيات نمذجة صوتية ومعمارية لتمثيل بنية السجن، وفقاً لذكرياتهم.
و"مقتل هاريث أوغوستوس" كان عبارة عن رصد لعنف الشرطة في شيكاغو لأسباب عرقية، من خلال عرض سلسلة مقاطع فيديو. في تفاصيل القصة، قام أحد عناصر شرطة شيكاغو بقتل أوغوستوس في حي "ساوث شور"، خلال "جولة تحقيق" قام بها خمسة من ضباط الشرطة.
استخدمت الوكالة ستّ عدسات زمنية مختلفة عبر البيانات الحضرية وفيديوهات المراقبة المتوفرة، بالإضافة إلى مزيج من التحليل الوثائقي والشهادات البصرية، استكشفت فيها الدوافع البنيوية لهذا العنف، والمتجذّرة في التفرقة العنصرية، مما دفع بسلسلة من الإجراءات القانونية ضدّ "شرطة شيكاغو".
كذلك ضمّ المعرض ثلاثة مشاريع صغيرة: "الشهادة المموضعة" وهي تقنية لإجراء المقابلات، تركّز على الأبعاد المكانية للتجارب الصادمة، تمّ تطويرها بتجسيد نماذج ثلاثية الأبعاد، مثل نموذج " طائرة مُسيّرة تغير على مير علي" شمال وزيرستان (2010)، ومشروع "مركب الصور والبيانات" وهي وسيلة تهدف لترتيب المواد ومعالجتها وتوفير إسناد مزدوج لها، خاصّة عندما تكون الأدلّة قليلة ومجتزأة، مثل نموذج "غارة على مسجد الجينة" (2017) نفّذتها طائرة أميركية مسيّرة في قرية سوريّة، ومشروع "التعلّم الآلي" الذي يوظّف خوارزميات خاصّة بالتصنيف من أجل ترتيب وفرز المحتوى الإعلامي، مثل نموذج " معركة إيلوڤايسك" (2017)، بين القوات المسلحة الأوكرانية وانفصاليين موالين لروسيا.
بحسب الوكالة، فإن عرْض مشروع كهذا في فلسطين، يأتي في سياق اتصاله المباشر بالتجربة الفلسطينية اليومية مع عنف الاحتلال الإسرائيلي، وكون الوكالة مهتمّة منذ تأسيسها بالتحقيق في القضايا الفلسطينية، منها: قضية قرية العراقيب وجوارها في النقب، وعنف المستوطنين الإسرائيليين في مدينة الخليل، وتدمير الأراضي الفلسطينية في بلدة بتير، وإبادة الاحتلال الإسرائيلي للتربة والمحاصيل الزراعية في غزّة.
تقول باحثة من "وكالة الاستقصاء المعماري" في فلسطين – فضّلت عدم ذكر اسمها لخشيتها من وضع اسمها على "القوائم السوداء" لدى الاحتلال الإسرائيلي التي تمنع الناشطين من دخول فلسطين – لـِ "العربي الجديد": "نبدأ من الموقف القائل بأن ممارسات كالاستيطان غير قانونية ومدمّرة، ولكن الاهتمام يتركّز في إثبات كيفية استخدام المساحات كجزء من عنف دولة الاحتلال - في فلسطين والأماكن الاستيطانية والعسكرية الأخرى - وتطوير وسائل التحقيق عن قرب، وعن المسافة وتأثيراتها على حياة الإنسان، بطريقة تسعى أيضاً إلى مساءلة الدول عن هذا العنف".
على هامش المعرض، يسعى المشروع إلى تطوير منهجيات البحث الأكاديمي في فلسطين، من خلال تضمينه بمساقٍ خاص في قسم العمارة في "جامعة بيرزيت"، يدور حول إعادة تمثيل السجون، وتعلّم التقنيات البصرية والمساحية اللازمة لتوثيق الشهادات عن الصدمات النفسية.
يستمرّ المعرض حتى الثاني من نيسان/ إبريل المقبل، وإلى حينها تعقد "مؤسسة القطان" بالتزامن سلسلةً من الندوات والورش، حيث يناقش بعض أعضاء "وكالة الاستقصاء المعماري" أنشطتهم في فلسطين وخارجها، عبر شرح منهجيات عملهم المعروضة، وورش عمل تجمعهم مع مؤسسات ومجموعات حقوقية فلسطينية، للحديث عن الطرق التي يمكن فيها استخدام أساليب معمارية ومساحية كجزء من المقاومة القانونية والسياسية في فلسطين.