برز الشاعر السوري نوري الجراح (1956) منذ بداياته في سبعينيات القرن الماضي، صاحب صوت مختلف من خلال بحثه في الهوامش والوقائع اليومية العابرة، مبتعداً على نحو واضح عن تلك المنبرية العالية، أو تمثيل الأفكار والأيديولوجيات الكبرى الذي كان سائداً في المشهد الشعري العربي.
لم يكف صاحب "طريق دمشق" عن التجريب باتجاه قصيدة أقرب إلى الحياة والناس، لكنه سيحمّلها بتفاصيل ورؤى وتأملات غنية مستمدة من تاريخه الشخصي وحيواته المتعدّدة في أماكن كثيرة، ومراجعاته المستمرة والدائمة في مصير الجماعة التي يبدو مسار رحلتها يشبه الملاحم اليونانية التراجيدية.
صدر حديثاً عن "منشورات المتوسط – إيطاليا" كتاب للناقد والمترجم المغربي عبد القادر الجموسي بعنوان "ما الذي يحدث في حدائق هاملت – قراءة أسلوبية في شعر نوري الجراح"، في مراجعة جديدة لمجموعة الشاعر التي نشرها الشاعر عام 2002 عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر".
في "حدائق هاملت" يختار نوري الجرّاح شخصية هاملت المركبة ليكتب دراما شعرية تخصّه هو وحده، ليقف على الخراب الذي حلّ بالعالم، وليقف عند معنى الشعر وإمكاناته للتحرر عبر الانطلاق من صورة أو رمزية معروفة إلى فضاء لا حدود له.
جاء في تقديم الناقد السوري خلدون الشمعة للكتاب "يحاول الناقد في دراسته للديوان اختبار نوعين من الحركة كل منهما يتجه في اتجاه معاكس للآخر: حركة ترصد تقدّم نصّ "حدائق هاملت" تجاه النص الشكسبيري بثرائه ولغته واستعاراته، وحركة معاكسة تحاول الكشف عن أسلوب الشاعر نوري الجرّاح وطرائق اشتغاله الفني لاستدراج النص المرجعي الدرامي إلى مدارات الكتابة الشعرية المعاصرة"، مشيراً إلى أنه "لا شك عندي أن هذا الضرب من النقد المفتوح على "حدائق هاملت" سيجعل قارئ الديوان أشدّ تذوقاً لتجربة شعرية حداثية بامتياز".
ويضيف: "الديوان إذن لا يحاكي النص الشكسبيري، بل يستخدم الإلماعات التي تشير إليه كما تستدعيها الذاكرة. وقد سبق أن كتب الشاعر الحداثي الاميركي ارتشيبالد ماكليش مسرحية عنوانه: "هاملت ارتشيبالد ماكليش"، قام فيها بإعادة تأويل لنص مسرحية "هاملت" على ضوء رؤيته السلبية القاتمة للحياة. غير أن نوري الجراح لا يحاول كتابة نص مسرحي بعد إخضاعه لعملية تأويل، على غرار ما فعل ماكليش، بل يستدعي الشخصيات والمواقف في مسرحية شكسبير كإلماعات صارت من قبيل المأثورات الإنسانية ثم يستخدمها استخداماً وَسْلياً (نسبة إلى وسيلة). وبهذا المعنى تظلُّ أنا الشاعر أناه نفسها رغم تماهيها مع ما توحيه الإلماعات المستدعاة من نص خارجي".
يرى الجموسي أن هذا الديوان "يشكل محطة فارقة في المسار الشعري لنوري الجراح. فهو عبارة عن قصيدة تجربة ذاتية غنائية تتأسس معماريتها على وحدة الموضوع وتنوّع المعالجة، توحي بذلك مقاطعها ومتوالياتها الشعرية التي ينتظمها خيط رفيع ورؤية شاملة. يتألف هذا العمل الشعري من خمسة فصول هي: "خطوات أوفيليا" و"مرثيات لاهية" و"ألواح أورفيوس" و"هباء ملون" و"خواتيم".
ويبيّن أن "الشاعر يهيئ أفق انتظار القارئ ويعده بإبرام ميثاق تخييلي معه لملامسة العتبة وولوج عالم القصيدة. منذ التّماس الأول تداهمنا القصيدة بصور شعرية كثيفة وصادمة تقذف بنا في أرض اللايقين حيث "المطلق كئيب" و"الملاك كسور ضاحكة". وهي مفارقة منذرة بحالة الغموض وحبائل اللغز المنتظرة. عالم حدِّي حيث الحواس في أقصى درجات رهافتها وتأهبها لاستراق السمع والإصغاء لنبض الكائن ودم الكينونة، وحيث المشاعر في أوج توهجها واستنفارها لاختبار ألم التجربة وتجرع مقاضاة القدر القاسي".