بكداش وزوجتي

26 فبراير 2017
(بطرس المعري/ سورية)
+ الخط -

في الحقيقة لا يوجد أي قاسم مشترك بين زوجتي والمرحوم خالد بكداش، رائد الشيوعية العربية. فخالد بكداش أولاً رجل وزوجتي امرأة، وهو شيوعي علماني مادي ديالكتيكي وزوجتي متديّنة ورعة لا تذكر اسم الرسول إلا مشفوعاً بالصلاة والسلام عليه وعلى آله وأصحابه، وبكداش كان مستعرباً نموذجياً لا يعرف من الكردية سوى كلمة "آزاد" بينما زوجتي كردوارية وهي قاموس متحرّك للغة الكردية، وبارزانية تحب مسعود البارزاني أكثر مما تحبّني.

إذاً ما الذي ذكّرني بخالد بكداش؟ سأقول لكم أصل هذه السانحة الغريبة: للمرحوم خالد بكداش مقولة شهيرة لطالما سمعت رفاقنا الشيوعيين الكرد يتمثلون بها وهي "إن إغضاب الاستعمار خير من إرضائه"، ويعنون بها أن الاستعمار لا يرضى إلا بعد أن يحقّق جميع مصالحه على حساب جميع مصالحك، أما إذا كان غاضباً ساخطاً فمعنى ذلك أنه ما زال هناك بعض ما تمتلكه ويريده، وبتعبير آخر أنك ما زلت محتفظاً ببعض اﻷوراق التي تساعدك على أن تفاوض عليها وتكون سيد قرارك إلى حد ما.

من دون أن أفكر بتشبيه نفسي به، أفترض أن السيد بكداش قد عاش مع السيدة بكداش حياة زوجية مشابهة لحياتي مع زوجتي حتى "طلعت معه" هذه المقولة العميقة الخارقة، وأنه أراد أن ينتقم منها بهذه التورية الثورية، فيأخذ بثأره ويتجنب المحاسبة في الوقت نفسه.

فالزوجة - ولست أعني زوجتي فقط - إن كانت راضية شغلتك وألهتك وكلّفتك بواجباتك وواجباتها وصدّعت رأسك بما يفيد وما لا يفيد فلا تجد نفسك - إذا كنت مبتلياً بصنعة الكتابة - إلا وقد كتبت سهواً إن المتنبي كان بياع بوظة، وأن نيلسون مانديلا ماركة محارم، وأن بشار اﻷسد قاد معركة حطين ضدّ الجيش الجمهوري الإيرلندي في غابات اﻷمازون.

أما الحالة المعاكسة، أعني حالة الزعل والمغاضبة، فخصبة مثمرة لا تحدث فيها أي فاولات ولا ضربات جزاء ولا ضربات قاضية، ولا يكاد يقطع صمتها البهيج سوى بضع كلمات ضرورية لفتح باب أو الرد على هاتف ما، أو ربما لتمثيل دور الزوجين المثاليين إذا حدث وحضر بعض الضيوف الطارئين على حين غرة.

بالنسبة إلي، أقصر خلاف لي مع زوجتي - وهو الذي يدوم يوماً وليلة - يكفيني لقراءة كتاب وكتابة مقالة وهو إنجاز لا يجب الاستهانة به خلال تلك الهدنة المتاحة على قصرها.

أما حين يدوم الخلاف ويستطيل أياماً - وهو نادراً ما يحدث - فقد أتمكن في سباق مع الزمن من قراءة "الحرب والسلم" للمرحوم تولستوي وكتابة دراسة عن المطبخ التركي في القرن السابع عشر أو عن عادات الزواج لدى قبائل الزولو.

ويحدث أحياناً، في تلك اﻷيام المباركة، حين تكون الساعة قد تجاوزت منتصف الليل وأنا غارق في ملكوت الكتابة والقراءة، أن أسمع وقع خطوات في الممر، فأعرف أنها تعرف أنني أعاشر إحدى ضرائرها الكتب، وأضحك في عبّي وأنا أتخيلها تبحث عن مدخل ما إلى الغرفة ولا تجده. وفي النهاية حين يعجزها اﻷمر تلجأ إلى واحدة من هجماتها المرتدة: تهجم على المطبخ وتبدأ حفلة قرقعة الصحون والملاعق وهدير المكنسة الكهربائية، أو توقظ أحد أطفالها بطريقة مزعجة بذريعة أخذه إلى التواليت، وبما أن الطفل البريء لا يدرك خلفيات الخطّة الجهنمية تراه يباشر الصراخ والبكاء بصوت يجعل من في اﻷجداث إلى ربهم ينسلون. "إغضاب الاستعمار خير من إرضائه"... رحمك الله يا خالد بكداش.


* كاتب ومترجم سوري كردي

دلالات
المساهمون