ثورة في مزرعة السّيد جونز

11 أكتوبر 2019
(من بسطة كتب في ميانمار، تصوير: جِف ريدفيرن)
+ الخط -

بعد ثلاث ليالٍ مات الخنزير العجوز ميجر قرير العين أثناء نومه، ودفن جثمانه عند طرف البستان. حدث هذا في أوائل شهر مارس. وخلال الشهور الثلاثة اللاحقة حدث نشاطٌ بالغ السرّية. فقد منح خطاب ميجر أكثر الحيوانات ذكاءً في المزرعة نظرة إلى الحياة جديدة جدةً تامة. لم تعرف متى ستحدث الثورة التي تنبأ بها ميجر، ولم يكن لديها سببٌ للاعتقاد بأنها يمكن أن تحدث في أيامها، إلا أنها رأت بوضوح أن واجبها هو الإعداد لها.

وكان من الطبيعي أن تقع مهمة تعليم وتنظيم الآخرين على عاتق الخنازير التي كان يُنظر إليها بشكل عام على أنها الأكثر ذكاءً بين الحيوانات. وكان بين الخنازير البارزة اثنان شابان اسمهما "سنوبول" و"نابليون" اعتنى السيّد جونز بتربيتهما من أجل بيعهما. كان نابليون خنزيراً ضخماً ذا مظهر شرس من سلالة خنازير بيركشاير النادرة، والوحيد الموجود في المزرعة من هذه السلالة. لا يثرثر كثيراً، إلا أنه شهير بأنه يجعل الآخرين ينفذون رغباته.

أما سنوبول، فكان خنزيراً أكثر حيوية من نابليون؛ أسرع منه في الكلام، وأكثر قدرة على الابتكار، إلا أنه لم يكن يعتبر ممتلكاً لعمق الشخصية الذي يمتلكه نابليون. أما بقية الخنازير الذكور في المزرعة فكانت خنازير صغيرة تُعلف للذبح. الأكثر شهرة بينها كان خنزيراً صغير الحجم سميناً اسمه "سكويلر" ذا خدين ممتلئين وعينين لامعتين وحركات رشيقة وصوت حاد.

كان متحدثاً بارعاً، ولديه، حين يجادل في بعض المسائل الصعبة، طريقة في القفز من جانب إلى جانب وهزّ ذيله تجعل حجته مقنعة بطريقة أو بأخرى. ولهذا قالت الحيوانات الأخرى عنه إنه يستطيع قلب الأسود إلى أبيض.

وسعت هذه الخنازير الثلاثة إلى توسيع تعاليم ميجر، وحوّلتها إلى نظام فكري كامل أعطته اسم مذهب "الحيوانية". وعقدت لعدة ليالٍ أسبوعياً، بعد أن يكون السيّد جونز قد غرق في نومه، اجتماعاتٍ سرّية في الحظيرة. وشرحت للحيوانات الأخرى مبادئ مذهب "الحيوانية".

في البداية، واجهت الكثير من الغباء واللامبالاة. تحدث بعض الحيوانات عن واجب الولاء للسيد جونز مشيراً إليه بوصفه "السيّد"، أو أدلى بملحوظات أولية مثل "السيّد جونز يطعمنا، فإذا ذهب، سيكون علينا أن نموت جوعاً".

وسألت حيوانات أخرى أسئلة من نوع "لماذا يجب أن نهتم بما يحدث بعد أن نكون أمواتاً؟" أو "إن كان لهذه الثورة أن تحدث في كل الأحوال، فأي فارق نحدثه سواء عملنا من أجلها أو لم نعمل؟". وواجهت الخنازير الثلاثة صعوبة بالغة في جعل الحيوانات الأخرى ترى أن هذا ضد روحية مبادئ مذهب "الحيوانية".

الأكثر غباءً بين الأسئلة هي الأسئلة التي سألتها "موللي"، المهرة البيضاء. كان أول سؤال سألته لسنوبول هو "هل سيظل السكر موجوداً بعد الثورة؟" فرد سنوبول بحزم "لا، نحن ليس لدينا وسائل لصناعة السكر في هذه المزرعة، بالإضافة إلى أنك لست بحاجة إلى السكر، ستحظين بكل ما تريدين من شوفان وتبن".

وسألت موللي "وهل سيظل يسمح لي بوضع الأشرطة في عرفي؟". فقال سنوبول "يا رفيقة، هذه الأشرطة التي أنت مغرمة بها رمزُ العبودية. ألا يمكن أن تفهمي أن الحرية تستحق ما هو أثمن من الأشرطة؟". ووافقت موللي، ولكن من دون أن يظهر عليها أنها اقتنعت بأجوبته اقتناعاً تاماً.

وخاضت الخنازير الثلاثة صراعاً أصعب لدحض الأكاذيب التي ينشرها الغراب المدجن "موزيس"، هذا الذي كانت له معزّة خاصة لدى السيّد جونز. كان جاسوساً ومروِّجاً للإشاعات، إلا أنه كان متحدثاً ذكياً.

لقد زعم أنه على معرفة ببلد غامض يدعى "جبل الحلويات"، تذهب إليه كل الحيوانات بعد موتها. وقال إنه يقع في مكان ما، فوق في السماء، وراء الغيوم بمسافة قصيرة. وأن في جبل الحلويات تعدّ أيام الآحاد سبعة أيام في الأسبوع، وموسم البرسيم يستمر على مدار أيام السنة، وتنمو كتل السكر وكعك بذور الكتان على الأسيجة.

ومع أن الحيوانات كرهت موزيس لأنه يقصّ قصصاً ولا يعمل، إلا أن بعضها آمن بوجود جبل الحلويات. وكان على الخنازير الثلاثة أن تخوض جدالاً بالغ الصعوبة لإقناعها بعدم وجود مكان مثل هذا.

بوكسر وكلوفر، حصانُ وفرسُ جر العربة، كانا أكثر تلاميذهما إخلاصاً. هذا الثنائي وجد صعوبة بالغة في التفكير لنفسه بأي شيء خارجي، ولكنه ما إن قبل بالخنازير أساتذة له حتى استوعب كل شيء قيل له، ونقله إلى الحيوانات الأخرى بأطروحاتٍ مبسطة. وكان منتظماً في حضور الاجتماعات السرية في الحظيرة، وفي قيادة غناء أغنية "يا حيوانات إنكلترا" الذي تنتهي به الاجتماعات دائماً.

وهكذا، وكما أظهرت الأمور، كانت الثورة آخذة بالتحقق بسهولة أكثر، وفي وقت أقرب من كل التوقعات. في السنوات الماضية، كان السيّد جونز، مع أنه سيد قاسٍ، مزارعاً بارعاً إلا أن الزمن جار عليه في الأيام الأخيرة، فثبّطت همته خسارته أموالاً في دعوى قضائية، وانساق إلى الإسراف في الشراب إسرافاً لا تحتمله صحته.

وفي وقت من الأوقات قضى أياماً بكاملها مستلقياً في كرسي، من نوع وندسور ذي المقعد الخشبي الصلب، في المطبخ، يقرأ الصحف ويشرب، وبين آونة وأخرى يُطعم موزيس قشور خبز يابسة منقوعة بالبيرة. وكان عمال مزرعته كسالى ومخادعين، والحقول ممتلئة بالأعشاب الضارة، والمباني بحاجة إلى تسقيف، والأسيجة مهملة، والحيوانات مصابة بسوء تغذية.

حلّ شهر حزيران، وكان الدريس جاهزاً للحصاد تقريباً. وذهب السيّد جونز إلى ولنغدن عشية الاحتفال بعيد القديس يوحنا المعمدان الذي صادف يوم السبت، وثمل في حانة الأسد الأحمر ثملاً بالغاً إلى درجة أنه لم يستطع العودة إلا في منتصف نهار يوم الأحد. كان عمال المزرعة قد حلبوا الأبقار في الصباح الباكر ثم خرجوا لاصطياد الأرانب من دون أن يزعجوا أنفسهم بإطعام الحيوانات. وحين عاد السيّد جونز ذهب لينام فوراً على أريكة في صالة الاستقبال، وغطى وجهه بصحيفة "أخبار العالم". وهكذا حين حلّ المساءُ كانت الحيوانات ما تزال بلا تغذية. وأخيراً لم تستطع تحمل الوضع أكثر من ذلك.

اقتحمت إحدى البقرات بقرنها باب مخزن الحبوب الرئيسي، وبدأت الحيوانات كلها بتناول طعامها بنفسها من صناديق الحبوب. في تلك اللحظة استيقظ السيّد جونز، وبعد لحظة كان هو وعماله الأربعة في مخزن الحبوب الرئيسي، وكل منهم يحمل سوطاً، ينهالون ضرباً بالسياط في كل الاتجاهات. وكان هذا أكثر مما يمكن أن تتحمله الحيوانات الجائعة، فانقضت بالإجماع على معذّبيها مع أن شيئاً مثل هذا لم يكن مخططاً له من قبل. وفجأة وجد جونز وعماله أنفسهم يُنطَحون ويُرفَسون من كل الجهات.

وخرج الوضع كله عن سيطرتهم. لم يسبق لهم أن رأوا حيوانات تتصرّف هكذا من قبل أبداً، فأرعبتهم وأفقدتهم صوابهم انتفاضة هذه المخلوقات المفاجئة التي اعتادوا جلدها ومعاملتها بخشونة مثلما يشاؤون. وبعد دقيقة أو دقيقتين فقط، تخلوا عن محاولة الدفاع عن أنفسهم وارتدوا على أعقابهم. وبعد دقيقة كان الخمسة هاربين، يركضون على الدرب الترابي المؤدي إلى الطريق الرئيسي، والحيوانات في إثرهم تطاردهم منتصرة.

في هذه الأثناء أطلّت السيّدة جونز من نافذة حجرة النوم، ولدى رؤيتها لما كان يحدث، رمت على عجل ببضع حاجيات في حقيبة رحلات، وانسلّت خارجة من المزرعة عن طريق آخر، وقفز موزيس من مجثمه ورفرف طائراً وراءها مطلقاً نعيباً عالياً، بينما واصلت الحيوانات مطاردة جونز وعماله خارج المزرعة وصولاً إلى الطريق الرئيسي، ثم أغلقت البوابة المدعومة بخمسة قضبان حديدية بعنف.

وهكذا، وقبل أن تعرف الحيوانات بالكاد ما كان يجري، قامت الثورة ونجحت نجاحاً تاماً؛ طُرد جونز وأصبحت مزرعة العزبة ملكاً لها. ولأول بضع دقائق لم تصدق الحيوانات أن حظها الحسن واتاها أخيراً. وكان أول فعل لها أنها أخذت تعدو مجتمعة وتدور حول حدود المزرعة كأنما لتتأكد من أن لا وجود إنسان يختبئ في أي مكان من أمكنتها.

ثم تسابقت عائدة إلى مباني المزرعة لمحو آخر أثر من آثار عهد جونز البغيض. جرى كسر وفتح باب غرفة معدات الشدّ على الحيوانات، الأحزمة والسروج والمهاميز والسلاسل وما إلى ذلك، في نهاية الاصطبلات، وألقيت الألجمة وحلقات الأنوف وسلاسل الكلاب والسكاكين القاسية، التي اعتاد السيّد جونز أن يخصي بها الخنازير والحملان، في أعماق البئر. وألقيت الأعنّةُ والأزمّة والغمائمُ وحلقات الأنوف المهينة في نار إحراق النفايات الملتهبة في الباحة.

وكذلك جرى الأمر على السياط. ووثبت الحيوانات كلها ابتهاجاً حين شاهدت ألسنة اللهب تلتهم السياط. وقذف سنوبول إلى النار أيضاً بالأشرطة التي كانت تُزيّن بها عادة أعراف الخيول وذيولها في أيام الأسواق الموسمية، وقال "يجب اعتبار الأشرطة شارة كائن بشري مثل الملابس. على كل الحيوانات أن تمشي عارية". وحين سمع بوكسر هذا، جاء بقبعة القش الصغيرة التي كان يضعها في الصيف على رأسه ليبعد الذباب عن أذنيه، ورماها في النار مع البقية.

وخلال وقت قصير جداً، دمّرت الحيوانات كل شيء يذكرها بالسيّد جونز، ثم قادها نابليون عائداً بها إلى مخزن الحبوب وأعطى كل واحدة منها حصة مضاعفة من الذرة، وقطعتي بسكويت لكل كلب. ثم غنت الحيوانات "يا حيوانات إنكلترا" من بدايتها إلى نهايتها سبع مرات متتالية، وهدأت واستقرت بعد ذلك لقضاء الليل ونامت كما لم تنم من قبل أبداً. ولكنها استيقظت في الفجر كعادتها، وبتذكرها للحدث المجيد الذي جرى، هرعت كلها خارجة إلى المرعى.

وفي الطريق إلى المرعى، في مكان لا يبعد عنه كثيراً، توجد تلة تشرف على مشهد شامل للمزرعة كلها تقريباً، وإلى قمة هذه التلة اندفعت الحيوانات، ومن هناك جالت بنظرها حولها في ضوء الصباح المشرق.

أجل، أصبح كل هذا ملكاً لها؛ كل شيء أمكنها رؤيته كان ملكها.


* من الترجمة العربية الجديدة لرواية "مزرعة الحيوان" التي تصدر هذه الأيام عن دار "ذات السلاسل"، محمد الأسعد

دلالات