مئوية المسخ

14 يناير 2015
دانا إيلين/ الولايات المتحدة
+ الخط -

منذ 100 عام، نام كافكا، وعندما استيقظ لم يجد نفسه حشرة، بل وجد نفسه أحد أهم كُتّاب القرن العشرين وأكثرهم تأثيراً في حركة السرد والأجيال التالية. أثبت كافكا، برواية "المسخ" القصيرة، أن الخلود لا يأتي من حجم العمل، بل من اكتشافه لأرض جديدة وزرع هذه الأرض بالخيال.

أسّس الكاتب التشيكي مدرسة فنية نهل منها من بعد ألبير كامو وبورخيس وكورتاثر وماركيز وساراماغو وخوان مياس، وربط النقاد أعماله بالفلسفة الوجودية الفنية وبالتعبيرية، وقورنت كتاباته بأعمال الواقعية السحرية التي جاءت بعده بسنوات، كما أشاروا إلى "مناهضة البيروقراطية" كأيديولوجية سياسية اعتنقها، وإلى "التصوّف" كأسلوب لرؤية العالم والتعاطي معه.

في عام 1912، وكان في التاسعة والعشرين، أدرك كافكا أنه كاتب وآمن بأن الكتابة هي كل ما يريده في الحياة. وبداية من هذا العام وحتى 1924، عام رحيله، أخلص للفن، فأنجز خلال 12 عاماً، هي كل سنوات عمره الكتابي، هذا المنجز الأدبي الذي يعدّ كبيراً مقارنة بالمدة الزمنية، هكذا ظهرت، من بين أعمال أخرى، "المحاكمة" و"تأمل"، ثم في 1915 جاء عمله الفارق "المسخ"، وبعده "طبيب ريفي" الذي ضمّ 14 قصة فانتازية أو كابوسية.

يعتبر استهلال "المسخ": "عندما استيقظ غريغوريو سامسا، بعد حلم مؤرّق، وجد نفسه قد تحول إلى حشرة"، واحداً من أفضل الاستهلالات الروائية، حيث التورط منذ اللحظة الأولى في العالم السردي، وعقد اتفاقية مع القارئ على أنها رواية خارجة عن المألوف، وأن فكرتها الفانتازية هي التي تحرّك عالمها. بهذا الاتفاق، لا يمكن البحث خارج منطق الرواية عن منطق واقعي، رغم أن الحادثة نفسها يمكن تأويلها كأزمة الإنسان في مواجهة النظم الرأسمالية، أو شعور الفرد بالعقاب لخضوعه للعمل، في تلاقٍ مع النظرة التوراتية لفكرة العمل (آدم ملعون بالعمل لكسب رزقه، وحواء ملعونة بالدورة الشهرية وآلام الحمل والولادة)، أو ربط الرواية بالحرب العالمية الأولى ووضع الإنسان خلالها، أو حتى كصورة فنية لما شعر به كافكا من عزلة طيلة حياته وعلاقته السيئة بأبيه.

ولعل أدقّ ما قيل عن "المسخ" هو ما قاله بورخيس، الذي ترجم العمل إلى الإسبانية، في محاضرة عنه بعنوان "طريقة العمل"، إذ وصفها بأنها "الارتداد إلى اللانهائية"، وأشار إلى أن ثيمات "المتاهة" و"المؤسسة المستحيلة" كانتا تسيطران على كافكا خاصةً في هذا العمل.

أما غارسيا ماركيز، فقال في كتابه السيري "عشت لأروي" إن أكثر كتابين تركا فيه أثراً هما "ألف ليلة وليلة" الذي قرأه في المدرسة وترك بصمته على أعماله التي ظهرت بعد ذلك بسنوات، و"المسخ" التي شجعته على نشر قصته الأولى في جريدة "الإسبيكتادور" الكولومبية. وربما أهم ما قاله غابو في هذا السياق إن كافكا "ليس في حاجة لبرهنة أن الحدث قد وقع، إذ يكفي أن يقوله المؤلف ليصبح حقيقة".

الملفت أن "المسخ" بفانتازيتها وجدت أرضاً خصبة في أميركا اللاتينية أكثر من أي مكان آخر، وكأن عجائبية الواقع هناك تواشجت مع فانتازية كافكا الفردية، ولعل القارئ العربي أكثر القرّاء الذين تذوقوا هذه الأعمال، لأنه بالأساس ابن فانتازية الليالي و"بدائع الزهور في وقائع الدهور" و"رسالة الغفران"، وابن إرث ثقافي فانتازي كبير.

دلالات
المساهمون