فوّاز حداد: نحن الذين نكتب رواياتنا

14 يناير 2015
الكاتب في بورتريه لجنان داوود
+ الخط -

ليس أمام فواز حداد حيلة أخرى غير الكتابة. هي حصنه، وموقعه الذي يطلّ منه على حال الإنسان الرازح تحت حمل الخوف والقهر والتعذيب في المعتقلات وأقبية السجون. وهي، بكلمة أخرى، ردّ الكاتب السوري على عذاب طال أمده، لاحقه هو وأبناء بلده طوال عقود خمسة، زمن حكم "البعث" وعائلة الأسد لبلده.

روايته الأخيرة "السوريون الأعداء" (دار رياض الريس)، تنتمي إلى هذا السياق. هي سرد لثلاثة عقود من رزوح سورية تحت حكم عائلة الأسد، تبدأ بأحداث مدينة حماة عام 1982، وتنتهي مع العام الأول من الثورة 2011، موثّقة لإرهاب النظام وأعمال التصفية والتنكيل التي كان يرتكبها.

غير أن هذا الخط الذي تسلكه الرواية يثير عدداً من الأسئلة عن علاقة الكتابة والسرد بالراهن السياسي. إذ ثمة من رأوا غلبةً للسياسي، في هذه الرواية، على حساب بنية العمل الفنية، في حين اعتبر جزء من قرائها أنها رواية شعب بمعنى الكلمة. لكن، ما يضير الرواية لو انطلقت من حدث راهن، طالما أن كاتبها قادر على توظيف هذا الحدث وتطويعه في عملية السرد؟

على أي حال، فإن "السوريون الأعداء" ليست رواية حدّاد الأولى التي يقارب فيها حدثاً وأزمة تاريخية معينة. هذا ما يدفعنا إلى سؤاله إن كان يخشى أن ينكمش العمل الروائي، فنياً، ويتراجع حضوره على حساب حضور الحدث التاريخي الذي يتناوله، أو يغيب بغيابه، مع العلم أن هذا الحدث هو مبرر وجود العمل.

"هذا خاضع لنظرتي إلى الرواية"، يجيب صاحب "الضغينة والهوى". "لم أشأ إغفال الزمان أو المكان، ولا استعارة مكان متخيل يؤطّر السرد. في رواياتي، تحضر المدن بأسمائها، كذلك الشوارع والحارات، مع تعيين الزمن، ما يوفر الخلفية التاريخية كإطار للحدث والشخصيات. إذا كان موضوع الرواية الإنسان والحياة، فينبغي أن تؤخذ الظروف المختلفة في الاعتبار".

ويضيف: "بالنسبة إلى "السوريون الأعداء"، أعتقد أنه إذا كان لهذه الرواية أن تنكمش ويتراجع حضورها، فذلك لن يكون بسبب الحدث التاريخي، وإنما لتعثر أو لوهن فيها، أتحمل وحدي مسؤوليته الروائية". وفي ما يخص وصف بعضهم الرواية بالبيان السياسي، يقول إنه لم يتوقع ردّاً أفضل من أصحاب هذا القول. "هذه ذريعة لم يُبرهن عليها. وإن كانت تبررها حذلقات النقد، لمجرد أن بعض شخصيات الرواية تطرقت في الحوار بينها إلى سياسات النظام! لماذا على ذلك أن يغيب عن الرواية؟ ليست لدي فوبيا من السياسة، خصوصاً عندما تتطلبها أحداث الرواية".

وإذ يشير إلى أن بعض هؤلاء اتهموه مرة بأنه من "الإخوان المسلمين"، وهي تهمة معروفة عقوبتها لدى النظام السوري كما يقول؛ يضيف أن "هذا الموقف من الرواية يتأتى من إدانتي للنظام، وتناولي آليات الاستبداد. هي اتهامات دافعها سياسي عموماً بهدف تشويه الرواية، ولا عجب أن الذين أطلقوها يقفون على الضفة الأخرى، أو في المنطقة الرمادية الملتبسة، ويدّعون الحياد، في زمن لا يحتمل المواربة وتصنّع الحياد ريثما تميل الكفة إلى أحد الأطراف".

أما في ما يخص الجانب التوثيقي في الرواية، أو العلاقة الجدلية فيها بين السرد التخييلي، والأمانة السردية، فيقول حداد إن روايته تنطلق من أحداث سياسية موثقة، ولا مجال للتلاعب أو للاجتهاد فيها، لكن ذلك لا يمنع من التخييل. لا يتوقف الأمر على الأمانة في السرد، هنا، بل سيتعداه إلى التكثيف، والسعي إلى ملء فراغات، كتبرير أفعال الشخصيات، وهو ما لا تؤمّنه إلا المخيلة.

التعامل مع حقيقة أو حادثة تاريخية، وتكثيفها، يستند بالضرورة، في رأي حداد، إلى حيّز واقعي ليحلّق الخيال فوقه. والحيّز، في هذا الحالة، أي الحدث السوري، مليء بحقائق لا يمكن بلوغها – من فرط التكتم عليها – إلا بواسطة إطلاق العنان للخيال، ولكن بدقة و حذر وتأنّ، والاحتراس، في الوقت نفسه، لئلا يخطئ الخيال الواقع.

لكنّ فعلاً كهذا لا يأخذ الرواية بالضرورة إلى خانة التوثيق، كما يرى صاحب "المترجم الخائن". هي، بالأحرى، "رواية عنا، نحن السوريين، في خضم الخوف والفساد والرعب والقتل، تُسرد من خلال مزيج من الواقع مع محطات وثائقية وتعامل مع الخيال لا يمكن تجنبه. لماذا؟ لأن الوضع السوري، نفسه، مفرط، في بعض مظاهره، في الخيالية والفجاجة".

هنا يأتي دور الأدب، على جزئية هذا الدور. يبين صاحب "الولد الجاهل" أن "خطاباً حماسياً يفعل أكثر من عشرات الروايات والمسرحيات، وأن قراءة رواية أو مشاهدة مسرحية لا تجعلنا نخرج في مظاهرة، إلا أن الأدب، والفن، ولو كانا عاجزين عن وقف هذا الإعصار، يبقيان الحنجرة التي نصرخ بها حيّة ضد كل هذه المأساة. الأدب مسؤول، وعلى المثقف أن يسهم بالكلمة وربما بالفعل. عندما تبلغ الوحشية بالإنسان حداً يتفوق فيه على وحوش الغابات، يأتي دور الأدب في الحض على التذكير بإنسانيتنا نحن البشر، وفي الدفاع عن الحقيقة".

ويضيف حداد: "إن ما يدفع الناس إلى التغيير ويحرضهم على الخروج إلى الشوارع مستهينين بالموت، يحتاج إلى معاناة تختلف عن الأدب، وهو ما يقدمه إليهم الظلم والبؤس والقهر واللاعدالة والجوع. أما الأدب، فينشّط الوعي لدى الذين يقرأونه، فيتعلمون منه، ويتمتعون به. وربما، مِن تأثرهم به، يفكرون بإجراء متغيرات في حياتهم. هؤلاء محظوظون. بالنسبة إليّ، أسهم الأدب في تغيير نظرتي إلى الكثير من الأمور، حرضني على التساؤل والتأمل والتفكير، أقلقني وأجاب على الكثير مما كان يؤرقني، وساعدني في الحياة. حتى أشد الروايات يأساً منحتني الأمل".

وفي سؤال حول دور "السوريون الأعداء" في تعرية الواقع، وإن كانت، بوصفها عملاً سردياً، استطاعت تجاوز هذا الواقع أم وقفت عاجزة أمام صوره الغارقة في الدم والسواد، يقول حدّاد إن "الرواية تتلمس الواقع، لكن لا شيء يتفوق عليه. من المؤسف أن يكون واقع الدم والسواد حقيقة لا مِراء فيها، من شدة قسوتها وهمجيتها، بحيث تعجز الرواية عن مضاهاتها. الواقع، بشراسته، يتفلت منا، وقدرتنا محدودة على مجاراة الفظائع المرتكبة، حتى ولو بالكتابة".

رغم ذلك، يرى صاحب "جنود الله" أن على الكاتب ألا يقعد عاطلاً عن العمل، ما دام بوسعه أن يكتب. إنها مسؤولية. لكن في المقابل، لا يسع الكاتب إلا الصمت إن كان في دائرة الخطر. هنا، "الصمت محبّذ، بل بطولة"، كما يقول، وهو أيضاً وسيلة للابتعاد عن الانجرار لممالأة السلطة واعتمادة سردياتها. هو صمت إلى حين، إذ إن علينا دائماً، كما يقول حداد، "أن نكتب رواياتنا. لن يكتبها أحد غيرنا".

المساهمون