"من نبحث عنه بعيداً": كيليطو وعناوينه

17 فبراير 2019
كيليطو
+ الخط -
"حصان نيتشه"، "من شرفة بن رشد"، "لسان آدم"، "العين والإبرة"؛ هي عناوين كتب طالما فتنت القارئ العربي قبل متونها، وهي تعود وغيرها للناقد والكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو (1945) حتى أنها تبدو مثل نص آخر كتبه، له أسلوبيّته الخاصة ومنطق بناءه.

ضمن فعاليات "معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب" الذي يختتم اليوم، جرى تقديم الكتاب الأخير لكيليطو: "من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا" (منشورات طوبقال، 2018)، بمشاركة كل من عبد الجليل ناظم ومحسن عتيقي الذي قدّم قراءة في العمل. وحين تناول المؤلف الكلمة، جعل من عنوان الكتاب مادة للتفكير في مداخلة بدت أقرب إلى محاضرة تفاعلية.

يسأل كيليطو الحضور: "العنوان جميل. أليس كذلك؟"، وحين يتلقى الردّ بالإيجاب، يبتسم ويقول: "لكنه ليس من إبداعي، فلقد التقطته من يوميات كافكا". يشير الناقد المغربي، أيضاً، إلى أن هذا العنوان يتطابق مع عنوان عمل سابق له، ومرة أخرى يُشرك الجمهور الحاضر حين يسأل بعضهم عن تخميناته عن هذا العنوان (كتاب "أتكلّم جميع اللغات لكن بالعربية")، ليجعل من ذلك أرضية للحديث، أو بالأحرى التفكير، في العنونة كمسألة أساسية ضمن العملية الإبداعية.

يعتبر صاحب المقامات: السرد والأنساق الثقافية" أن "العناوين لا تحمل متاهات وإرباكات للقارئ وحده، بل حتى للمؤلف الذي قام بصياغتها"، ويشير هنا إلى عنوان كتابه "بحبر خفي" حيث يذكر أنه بعد أن قًرئ بكسر الحاء كما فكّر فيه، لفته صديق أنه يمكن أن يقرأ بفتح الحاء ليصبح "بحَبر خفي" وهي إمكانية تجد مبرّرات لها في النص. يرى كيليطو هنا أنه بتنا "حيال كتابين على الأقل".

يقول: "تعني مفردة حَبر العالم المتوسّع في المعرفة، وكان هذا النوع من العلماء يُنعت بالمتبحّر في العلم، والبحر مفردة تتركّب من نفس حروف حِبر وحَبر، وبالتالي فهي معنى آخر يتداخل مع العنوان". يضيف: "في الحقيقة، وأنا أضع العنوان أكون غافلاً تماماً عن مثل هذه الاحتمالات، لكن اللغة واعيةٌ، وهي تنتظر الوقت المناسب لتُفصح عن دلالة وتحجب أخرى".

خلال النقاش لاحقاً، بدا أحد المتدخّلين متشنّجاً في أسئلة من قبيل: "ما الذي تضيفه هكذا مباحث في عالم عربي يعيش على وقع العنف والمتغيّرات الاجتماعية الحادة، وهل لمثقف عربي أن يؤثر في سياقات الأحداث وصخبها؟". لم يردّ كيليطو على هكذا ملاحظات، ولكنه يلتقط إمكانية ضمنية أخرى في عنوانه وهي "حرب" (يغادر المتدخّل القاعة حين ينتقل كيليطو إلى إجابة أخرى)، ليعطف صاحب "الكتابة والتناسخ" على مسألة استحالة ترجمة الزخم الذي تخلقه لغة ما في داخلها إلى أخرى. يقول "كيف سننقل تداعي الدلالات حين نقلب الكسرة بفتحةٍ أو تقديم حرف على آخر؟".

يلفت الكاتب المغربي، هنا، أن المسألة ليست كما يعتقد البعض متعلقة بثراء لغة مقارنة بأخريات، كما يحب أن يقول كثيرون بشأن العربية، وإنما يتعلق الأمر بما تختزنه اللغات من مخيال، ويضرب مثلاً هنا بعنوان وضعه الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس La busca de Averroes والذي تُرجم بـ"البحث عن ابن رشد" وهذا صحيح، لكنه يُسقط معنى آخر وهو البحث الذي يقوم به ابن رشد نفسه.

هكذا، بدا التفكير في العنونة مع كيليطو وقد انفتح على مسارات متشعبة بين النظريات والحكايات، وهو أمر يبدو أن الناقد المغربي منتبه له، حيث أشار في أحد تفرّعات حديثه. يقول: "وأنا طالب، كنت أحلم أن أكون منظّراً للأدب لكنني فشلت. وحينما حاولت تفسير ذلك لنفسي، وجدت أنني أفكّر بالحكايات، هكذا تربّيت، كلما دخلت في منطقة للتفكير إلا واختطفني ما يغيّر وجهتي، أجد نفسي أبحث عن حكاية صورة أو سر وراء كلمة وأترك الهدف الأصلي".

وإذا كان كيليطو لم يجب بشكل مباشر على أسئلة المتدخّل الذي بدا متهجّماً عليه، فإنه بهكذا إشارات قد وضعه ربما على سكة الإجابة. ذكر المتدخّل أسماء كتّاب مؤثرين في عالم اليوم مثل ميشال أونفري وبوب وودورد وروبرت فيسك، لكن أليس كيليطو بصوته الخافت أكثر تأثيراً في النفوس بحكاياته وخروجه عن الخطوط المستقيمة للتفكر النظري؟ أليس الأهم من الحديث المباشر عن الواقع إنتاج معنى داخله؟ ثم، أليس "من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا" كما يقول عنوان كيليطو؟

دلالات
المساهمون