لكل "ثورة" موسوعتُها

16 ديسمبر 2018
(من احتجاجات "السترات الصفراء"، تصوير: فيرونيك دوفيغوري)
+ الخط -

بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية في فرنسا، واستمرارها للأسبوع الخامس على التوالي، شاعت في وسائط التواصل الاجتماعي العربية عبارات سبق وأن أُطلقت إبان "ربيع 2011". وكالنار في الهشيم، انتشرت شعاراتٌ من قبيل: "ارحل ماكرون"، و"الربيع الفرنسي"، وقد تردُ بنقيضها: "الشتاء الفرنسي" تهكّماً، وحتى "الشعب يريد إسقاط... ".

تخفي هذه الظاهرة أبعاداً ثقافية لافتة: كلٌّ يقرأ الاحتجاجات وفق "الموسوعة" (مفهوم صاغته دراسات التلقّي وخصوصاً أمبرتو إيكو) التي يستند إليها والرموز التي تشكِّل سداها. يُستعاد الحدث الثوري طبقاً لذاكرة كلمات القارئ وإحالاتها. وكأنما هي لُعبة الأقدار تُضلِّل المراقبين، عودٌ فيها للتاريخ على بدءٍ: منذ سنوات سبعٍ، قرأ المثقّف الفرنسي "الربيع العربي" من خلال مفردات "الثورة الفرنسية" و"ربيع الشعوب"، مع أنهما حصلا أواخر القرن الثامن عشر. وفي أيامنا، يَقرأ بعض العرب احتجاجات "السترات الصّفراء" عبر ما شَهِدوه في "ربيعهم".

تغفل القراءتان حقيقةً ثابتة: لكل حدث أسبابه الذاتية وديناميته الخاصة ومطالبه. في إسقاط إحداهما على الأخرى تعسّفٌ وشطط. تعود جذور الاحتجاجات الفرنسية إلى النظام الضرائبي الذي بات، في نظر الغالبية جائراً. واتّسع نطاقها لتشمل نُظم الاجتماع والسياسة وتوزيع الثروات... ثم تسلّلت معضلة الهوية الوطنية حين دخل على الخط التفاوت الطبقي والجهوي بين كبريات المدن وأقاصي الأرياف الفرنسية. العلاقة بالربيع العربي باهتة أو منعدمة.

في المقابل، يصعب اقتراح مفهوم "Révolution " الذي يرتبط بـ"الثورة الفرنسية" (1789 - 1799)، كترجمة دقيقة لـ "الثورات العربية". فليست إحالات الكلمتيْن بِمُتماثلة، ولا تنطوي "الموسوعة"، التي تستدعيها كل واحدة منهما، على ذات الدلالات والإشارات والتمثيلات. لكل لفظة سرديةٌ وتاريخ.

ومن مظاهر هذا الالتباس أنّ متابعين عرباً أعلنوا تسويغهم لأعمال العنف والتكسير والحرق التي رافقت الاحتجاجات الفرنسية فصدَمت العالَم. يقولون: ما دام العنف يجري في أعرق الديمقراطيات، وفي "قوس النصر" تاج رموزها، فهذا دليل شرعيته، وعطفاً عليه شرعية أعمال العنف التي طاولت بلداننا إبان "الربيع".

وقد يأخذ هذا الموقف شكلاً ساخراً، في تعليقات أصحاب الحنين إلى الأنظمة البائدة، حين يقول لسان حالهم: "ها هي فرنسا تكتوي اليوم بالنار التي كوت بها بلادَنا أمس"، مع شعور بدائي عدائي بالشماتة. بل إنّ خيالَ بعضهم تفتّق عن نكتٍ مدارها اتصال بشّار الأسد بماكرون يعرض عليه المساعدة في قمع المظاهرات بحكم الخبرة التي اكتسبها!

تقسم احتجاجاتُ فرنسا مثقّفيها، ولكنها أيضاً تفضح المثقّفين العرب وتضعهم أمام محنة التأويلات المسقطة والقراءات السريعة بل والمتناقضة لواقع شديد التعقيد: فلئن هدفت الثورات العربية إلى إعادة "الكرامة" للمواطن في ظلّ أنظمة قمعية قاسية، فإن بعض احتجاجات باريس تحرّكها خطابات متطرّفة، تمتح من مقولات اليمين واليسار المتشدِّديْن.

وهذا من أمثلة التناقض بين المشهدَيْن. ولذلك ربما يكون من الجدير إجراء دراسات دلالية وتَرجمية حول مفردات الربيع العربي ومقارنتها بعدئذٍ بخطاب التظاهرات التي تهز فرنسا هذه الأيام، ويبدو أنها لمزيد التصعيد مرشّحة.

وقد دشّن المفكّر القانوني التونسي عياض بن عاشور هذا العمل في كتابه "تونس: ثورة في بلاد الإسلام (2017، بالفرنسية)، وكذلك الباحثة مريم بن رعد في "الدولة الإسلامية في فخ الكلمات" (2017، بالفرنسية)، حيث نادى العَملان بضرورة الحذر في تحليل المفردات واستخدامها. فقد اعتادت الأنظمة الحاكمة وكذلك هيئات الثورة، التلاعب بدلالة الألفاظ والقفز على ذاكراتها الممتدّة، وهي حمّالة أوجهٍ، طلباً للتأثير الأقصى في مخيال الناس وتوجيه آرائهم.

يبقى أنّ الظلم واحد، ولا لغةَ لآثاره القمعية. لن تخفّف من طبيعته القاسية فويرقاتُ الترجمة ولا اختلافات المعاني الثواني التي تدور عليها أسماؤه. وقد يُعدّ تحليلها من تَرف الدارسين. إلا أن التلاعب بموسوعات الكلام، ضمن واقع الظلم هذا، يزيد من خطره. فللكلمات نفوذٌ ولذاكرتها سَطوة، كما أثبتته دراسات جوديث باتلر في كتابها: "سلطة الكلام".

المساهمون