اللغة والإشهار: بوّابة للمعيش اليومي

21 يوليو 2019
أثير الموسوي/ العراق
+ الخط -

يعود أول ذكرٍ في اللغة العربية للإعلانات باعتباره آليةً لترويج البضائع، إلى نصّ طريفٍ كتبه رفاعة الطهطاوي، في القرن التاسع عشر، يقول فيه بشيءٍ من السذاجة والانبهار: "من الأمور النافعة في التجارات "الجورنالات". فيكتبون فيها كُثْرياً من البضاعة النافعة أو الجيَّدة الصنعة ويَمدحونها، لِيُرَوِّجوا السلع، وليُعْلِموا الناس بها. وصاحبُ البضاعة يَدفع لهم شيئاً في نظير ذلك (...)، وقد يَطبع التاجرُ، الذي يَرى ترويجَ سِلعته، عدَّة أوراق صُغريّة ويُرسلها مع خَدَمٍ في سائر البيوتات، ولسائر المارِّين بالطرق ويُفرّقها عليهم مجاناً؛ ففي هذه الأوراق يَذكرُ اسمَه واسمَ دُكّانه وما عندَه من المبيع ويُعلي القيمة لِسلعته".

ثم شاعت هذه الممارسة الخطابية في الصحف العربية الناشئة. فيَذكر مُؤرخُها فيليب دي طرازي أسماء العديد ممن مارسَ منها هذه الوظيفة الإعلامية، لغاية الربع الأول من القرن العشرين، موضّحاً تلازم تاريخ الصحافة وتاريخ الإشهار وتشابك مسارَيْهما.

وما لبثت الإعلانات أن تجاوزت حدودَ الصحافة المكتوبة واجتاحت الوسائط السمعية-البصرية، متوسّلةً بمجموعة من الأدوات الأسلوبية والنفسية التي لم تُعهد في تاريخ الضاد، وقد بَرع أصحابها في صياغتها لتؤثّر في المتلقّي عبر المزاوجة بين الصورة والكلمة، بين الشكل والحَرف، بين علم النفس والأدب.

وتُمثّل قواعدُ صياغة هذه الإعلانات موضوع علمٍ قائم اشتهر باسم "copywriting"، ويُعنى بالوسائل اللازمة لكتابة إعلان ناجحٍ، يُحقّق الغاية منه. إذ لا يعتمد النجاح، في مُخاطبة المخيال، على أساليب المجاز وبراعة الإيجاز فحسب، بل على نتائج التحليل النفسي والاجتماعي المستنبطة من دَرس السلوك الفردي والجماعي، ضمن بيئةٍ ما، وطرق التأثير فيه. كما يغوص هذا الفنّ في خفايا العناصر التي تريح أو تُزعج نفسيّة الزبون وتؤثّر في أحلامه والضغوط التي يخضع لها... ما يؤكد أهمية اختيار الصور والكلمات وحتى التراكيب النحوية في هذا الإنتاج اللغوي الحسّاس.

ومن مظاهر تحوُّل الخطاب الإشهاري العربي تحرّره التدريجي، خلال السنوات الأخيرة، من سلطة الفُصحى، بعد أن بات يستند إلى السجلّ الدارج والعامي وحتى السوقي. وهو ما يُبَرَّر بالرغبة في توجه هذا الخطاب إلى أوسع عدد ممكن من الجمهور، وهو جمهور قُطْريٌّ بالأساس، تستهدفه تلكَ البَضائع المُشهرَة. ولذلك تخاطبه الإعلانات بعباراتٍ محلّية يَألفها، وقد تلجأ إلى الصور والأمثال الشعبية والضمنيات الخاصة بغرض دغدغة مشاعر الناس والنفاذ إليها.

كما تجلّى هذا التحوُّل في استعمال عددٍ كبير من الكلمات المُقترضَة والمفردات الأجنبية، وخصوصاً أسماء البضائع وعلاماتها، وهي في الغالب غربية المنشأ. وهكذا، باتت لغة الضاد المعاصرة، في حقلها الإشهاري، من أكثر الحقول قبولاً للدَّخيل والمعرّب، وغالباً ما يُرسمان، جنباً إلى جنبٍ، بالحروف العربية واللاتينية.

وهذا المظهر بذاته مفارقةٌ حادّةٌ في تاريخ الضاد المعاصرة التي تألّقت، ضمن هذا الحقل، في تنشيط الكفاءة التحريضية أو التشجيعية للخطاب. فقد نَفَذت إلى مخزونها الفصيح وامتاحت من ذاكرته جُملاً ذات نجاعة كبيرة في حث "الزبائن" على الاستهلاك، منزاحةً بذلك عن وظائف الإنشاء المهترئة، نحو براغماتية حيّة ونَشطة، تلامس خفايا الناس في معيشهم اليومي وتحيل على ما يستهلكونه من الأشياء العامة والحميمة. ومن ذلك مثلاً نقرأ: "أحدث صيحات عصر التكنولوجيا"، "أرقى التصاميم" "وآخِر ما توصّل إليه عالَم العطور"، "وألذّ الأجبان" "أفضل الأقمشة"... في إعادة تنشيط لافتة لصيغ المفاضلة والتشديد لتضخيم خصائص السلعة المعروضة.

وتتنوّع قيمة هذه النصوص القصيرة بحسب المستند، ومن أنواعه الكُتيّبات والمطويات وإعلانات الشوارع والمَعارض، فضلاً عن الإشهار المرئيّ والمسموع في دور السينما والمدونات الرقميّة. وفي كلٍّ، تَسعى الضاد إلى الصمود أمام الإعلان باللغات الأجنبية عبر تطوير ذاتها، وتحديث مخزونها الإيحائي لإنطاقه بما لم يتعود عليه. ولم يُدرسْ بعدُ حجم القطيعة أو التواصل بين الإشهار المعاصر وذاكرة المجاز عندنا.

ذلك أنّ لغة الإعلانات تتفاعل باستمرار مع المستوى التعليمي والثقافي للجماهير العربية، في مختلف أقطارها. وتتفاوت أساليبها بحسب الفئة العُمرية والاجتماعية، المستحضَرَة أثناء إنتاجها. ففي العقود الماضية، كانت هذه الإعلانات تصدر في عمومها بالفصحى، وتستخدم بعض الصور المجازية العليا، بل حتى عباراتٍ عالِمة وتراكيب جَزلة.

وتُفسَّر هذه النزعة بشيوع ثقافة تقليدية لدى المتلقّي، كما لدى الجهات الرسمية التي كانت تراقب النصوص الإشهارية وتفرض عليها، لا فقط ضوابط أخلاقية وتجارية، بل لغوية أيضاً. ولكن، في السنوات القليلة الماضية، خفّت هده النبرة الجزلة وتحرّر الخطاب، امتدادًا لتحرُّر الاقتصاد والإشهار، إذ هيمنت الدارجة على الإعلانات التي سايرت النزعة الاستهلاكية الجارفة.

فهل نجحت الضاد في مجاراة النظام الرأسمالي وماكينته الإعلانية؟ من خلال دراسة العديد من المقاطع، ولا سيما السمعية-البصرية، يجدر أن نُقرّ بتراجع السجل الفصيح، رغم نجاعته، في فرض ذاته لغةً للخطاب الإشهاري، وبهيمنة الصور والأضواء والمؤثّرات الخاصة، مع حضور متزايد لا فقط للهجات بل للعبارات المسكوكة والصور الضمنية والإيحاءات الخاصة التي قد لا يفهمها غير جمهورها الداخلي، في ما يشبه الانغلاقَ القطريّ، لولا الطابع العالمي المتزايد لشتى البضائع.

ليس الخطاب الإشهاري سوى انعكاس لصورة المجتمع العربي الذي انجرَّ، شأنه في ذلك شأن سائر المجتمعات الأخرى، بتأثير من العولمة، إلى النزعة الاستهلاكية التي نقدها الفلاسفة المعاصرون؛ مثل ميشال أنفري. فالإعلانات تستعيد ما يطغى على السوق من بضائع وتساير تهافت الناس على "البضاعة"، سواء كانت حقيقية يحتاج إليها المواطن فعلاً، أو متخيّلة. يصنعُ هذا الخطابُ "ضرورتَها" الكاذبةَ.

كما يعكس الإشهار تغييراً عميقاً في بنية المجتمعات العربية-الإسلامية، التي شهدت بدورها تحوّلاً في نظامها القيمي، فلم تعد تحكمها المبادئ التي سادت مجتمعاتِنا التقليدية، قبل الحداثة وصدمتها، بقدر ما صار يَحفزها نظام من القيم (الرأسمالية) الجديدة مثل السعادة المادّية، التي تقاس بحجم المقتنيات والقوة الجسدية ولياقة البدن وأناقة المظهر والإحساس بالارتياح والمتعة.
وهي تحوّلات جمّة صنَعَتْها العربية وصاحَبَتْها. ونكتفي للتأكد من ذلك، بتأمل التوسُّع الدلالي الذي طرأ على مفهوم "المتعة" الشائع في الإعلانات بعد أن صار قيمة إيجابية، بعد أن ظلّ لعقودٍ مقترناً بالحُرمة. وقد حلّل عالم الاجتماع دافيد فيكتوروف هذه التحوُّلات القيمية في كتابه الشهير "الإشهار والصورة" (1978).

وهكذا وضعت آليةُ الإشهار الضّادَ في مفترقٍ بين الجهوية والكونيّة، بعد أن وصلتها بحياة الناس اليومية وبما يأكلون ويَشربون ويلبسون، وكانت من قبل ألصق بشؤون الفكر والوجدان. فتطوُّرُ هذا الحقل، رغم تعثّراته أحياناً، لهو من دلائل حيوية هذا اللسان وارتباطه الوثيق بتحوُّلات الإنسان العربي، ولعلّه من الردود البليغة على القائلين بتصلّب الضاد وبعدها عن الواقع.

المساهمون