مَن اقترب من صالح علماني، كشخصٍ، يعرف كم كان زاهداً في الحياة. رجل أقل شيء يُرضيه: رجل بلا متطلّبات. ولولا ذلك، ما قُدّر له أن يُتحفنا بكل ما أتحف.
ذات يوم، زرتُه في بيته في بالنسيا، واستوقفتني غرفته الصغيرة المخصّصة للعمل.
كانت أصغر الغرف، بما تحتويه من أثاث مقتضَب.
قلت له: أتَخرُج الروائع، إذن، من هذه "الزنزانة"؟
كان قد وصل إلى إسبانيا، كأي لاجئ، لا يملك من حطام الدنيا شيئاً.
وتدخّلَ بارغاس يوسّا وشاعر إسباني نسيت اسمه، فأعطاه وزيرُ الداخلية الإقامة.
وكما لاحظت، في ما بعد، فغير قليل من مبدعي إسبانيا وأميركا اللاتينية، كانوا يعرفون فضله. أتذكّر احتفاءهم به، غير مرّة.
كما أتذكّر، بالمقابل، تجاهل السلطة الفلسطينية له. ومحاولات جرت لإعطائه بعض ما يستحق من راتب، كموظّف قديم، دون طائل.
كان حزيناً من عدم تقديره في بلده. وحزيناً من سرقات الناشرين لحقوقه، وكم شكا لي من منغّصات وقعت عليه من قبل أولئك وهؤلاء.
الآن، وقد رحل فاتح عيوننا على الأدب الأقرب إلينا، ها هي فلسطين الرسمية تنعاه.
أمّا موقفه ممّا يحدث في سورية، فكان مصدر خلافنا الوحيد. وأشهد لمن يعنيه الأمر، أنه كان مقتنعاً بذلك الموقف، دون انتظار أي شيء من أيّما أحد.
كان حلمه الشخصي (كما أخبرني، هنا في برشلونة، وهناك في بلنسيا)، أن يبني بيتاً لائقاً بالمترجمين، وأن يستضيفهم متكفّلاً بإقامتهم. وكان قد بنى البيت بالفعل، ودفع فيه جميع ما يملك، دون إتمامه، حتى قامت الثورة، فهاجر.
لم تبتعد أحلامه عن طبيعة عمله، ولعل في هذا دلالة على مدى إيمانه بالترجمة وإخلاصه للمترجمين.
مائة وعشرة كتب، من عيون الأدب العالمي، هي حصيلة قرابة نصف قرن من العمل اليومي الدؤوب.
وكما قال لي، مرّة، فإن عمله كمترجم يذكّره بعمله كحمّال قديم في ميناء برشلونة.
كلاهما شاق، مع فارق أن الترجمة عمل، لولا الشغف به، ما احتمله أحد.
وفي آخر زيارة له إلى برشلونة، أخبرني أنه ترجم خمسة فصول من رواية إيروتيكية لبارغاس يوسّا، ثم توقّف.
قال: نأيتُ بنفسي عن إكمالها، لأن سياقنا لا يحتمل.
كان متألّماً لحال المنطقة، وكانت زيارته لفلسطين، قد تركت ندبة لن تُمحى في عقله وقلبه. فهناك على الجسر، منعه الأعداءُ من دخول بلاد الحلم المحتلة.
قال لهم وقد رآها بعينيه للمرّة الأولى: اقتلوني وأدخلوني إليها.
لم يكن حينها يمتلك جواز السفر الإسباني، بل فقط وثيقة سفر إسبانية، ولهذا أرجعوه عن الجسر، دوناً عن بقية الوفد.
الآن، وقد تلقّيتُ خبر أنك لم تعد بين الأحياء، أصفن في جُزازات وشظايا، من علاقة امتدت سنوات بيننا، في المهجر الإيبيري، تخلّلتها عشراتُ المكالمات التي كنتَ دوماً المبادر بها، وأقول: كأنه الحلم، يأتي ويروح.
كأنها الحلم، هذه الحياة التي عشنا يا صديقي أبو عمر. أيها الفلسطيني الأصيل والطيّب.
كأنه الحلم، أيها الخالد بما أَعطيت.
* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة