صدر قديماً: أبو القاسم الشابي و"الخيال الشعري عند العرب"

03 سبتمبر 2017
(تمثال لأبي القاسم الشابي في توزر التونسية)
+ الخط -

لم تكن الصلات الأدبية العربية بين تونس ومصر، أو بين نيويورك ومصر، أو بين روسيا القيصرية وهذه العواصم، مقطوعة مع مطلع العقد الأول من القرن العشرين كما هي عليه الآن. في ذلك الزمن يمكن أن نجد تماثلا في مناحي تفكير أدباء عرب يعيشون هنا وهناك، بل ونجد ما يشبه الحوار المتبادل، والتأثير الذي يتدفق من أكثر من اتجاه في تلك المرحلة المبكرة من مراحل تجديد الشعرية العربية.

وبالطبع على خلفية علاقات عقدتها هذه الأوساط الأدبية العربية مجتمعة، كأنما باتفاق مسبق، مع التيار الرومانسي في الأدب الغربي، والانكليزي منه على وجه الخصوص، ومع ما تشيعه تيارات فكرية شرقية وغربية موضوعاتها تاريخية ولغوية وإثنية. وكتاب التونسي أبو القاسم الشابي (1909-1934) الصادر في عام 1929 تحت عنوان "الخيال الشعري عند العرب"، علامة بارزة من علامات هذه الصلات المشعبة، بما لها وعليها.

مسألة التجدد والتجديد كانت هاجس هذا الكتاب، كما كانت هاجس جماعة "الديوان"، وعباس محمود العقاد (1889-1964) الأعلى صوتاً وصيتاً بين أفرادها، وهاجس "ميخائيل نعيمة" (1889-1988) خريج جامعة بولتافا الروسية، وعضو الرابطة القلمية في نيويورك.

ولكن كتاب الشابي، وكان في الأصل محاضرة له، أو مسامرة على حد تعبيره، لا تهجس فقط بما هجس به هؤلاء، على بعد الشقة والمزار، بل تأخذ أطروحاتهم إلى مدى أبعد، فتوسع اعتراضاتهم (وقد سلبت ألبابهم نزعة الفرد الرومانسي في كتابات أمثال الإنكليزي كولرج، وخاصة مقدمته للقصائد الغنائية) على تيار شعر الإحياء العربي ممثلا بأحمد شوقي، ويحوّلها إلى اعتراضات على منجزات الخيال الشعري العربي كلها، سواء كانت في الأساطير، أو شعر الطبيعة، أو القصة، أو النظرة إلى المرأة، أو في الأدب بعامة.

ويمكن أن تظهر مقارنة نصية بين اعتراضات عباس العقاد على شعر شوقي في عام 1921 وبين اعتراضات الشابي على الشعر العربي في مختلف تجلياته التي ذكرنا في عام 1929، كيف كانت الصلات الأدبية حميمة إلى درجة يخيل فيها للقارئ أو المستمع أن أحد الأديبين صدى للآخر.

يقول العقاد في معرض تقويضه لشاعرية شوقي: "... إعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي ألوانها وأشكالها، وليست ميزة الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه وإنما أن يقول ما هو ويكشف عن لبابه وصلة الحياة به". ويقول الشابي في تقويضه لشعرية كل منتجات الذهن العربي: "... كل ما أنتجه الذهن العربي في مختلف عصوره قد كان على وتيرة واحدة، ليس له من الخيال الشعري حظ ولا نصيب"!

والروح السائدة في ذلك هي النظرة القصيرة الساذجة التي لا تنفذ إلى جواهر الأشياء وصميم الحقائق، وإنما همها أن تنصرف إلى الشكل واللون والقالب، أو ما هو إلى ظواهر الأشياء أدنى من دخائلها"، ويقول في سياق آخر: "انتهى بي البحث في الأدب العربي وتتبع روحه في أهم نواحيه.. إلى أنه أدب مادي، لا سمو فيه ولا إلهام ولا تشوّف إلى مستقبل، ولا نظر في صميم الأشياء ولباب الحقائق"! ولا تخفى على القارئ هنا مغالاة شاعر في العشرين من عمره.

"وضاءة الفن" و"إشراق الحياة"، كانا التعبيرين الأكثر تردداً عن متطلبات تجديد الشعرية العربية، وهما مما ورد في تعقيب العقاد على كتاب نعيمة المسمى "الغربال" حين كتب :" رأيتُ قلماً جاهداً في طلب الشعر الصحيح، شعر الحياة"، وهما ذاتهما ما بحث عنهما الشابي وهو يقسم الخيال الشعري إلى قسمين: "قسم اتخذه الإنسان أولاً ليعبر عن ذات نفسه حين لا يجد لها مساغاً في الحقيقة العارية، ثم تطور هذا النوع مع الزمن فكان منه هذا النوع الذي نعرفه، والذي ألّفت فيه كتب البلاغة على اختلافها"، وقسم "اتخذه الإنسان لا للتنويق ولا للتزويق ولكن ليتفهم من ورائه سرائر النفس وخفايا الوجود، وهو هذا الخيال الذي نلمح من خلفه ملامح الفلسفة وأسرة الفكر، ونسمع من ورائه هدير الحياة الكبرى يدوّي بكل عنف وشدة، وهو هنا الفن الذي تندمج فيه الفلسفة بالشعر ويزدوج فيه الفكر بالخيال".

هذا النوع الأخير هو الذي يبحث عنه، بوصفه حسب تسميته " خيالاً فنياً"، لأن فيه تنطبع النظرة الفنية التي يلقيها الإنسان على هذا العالم الكبير، وبوصفه حسب تسميته أيضاً "خيالا شعرياً" لأنه يضرب بجذوره في صميم الشعور. وهو ذاته الخيال الذي لا يجد له أثراً في تاريخ أساطير العرب الذي لم يعرف كما ظن، أو قرأ في كتب المستشرقين، إلا شيئاً يسيراً من الأساطير، ثم هو مضطرب ومختلط لا نظام فيه ولا يسوسه قانون، ولا يجمعه كتاب خاص كما في أساطير الأمم الأخرى".

ولا يجد له أثراً في الشعر العربي سواء كان شعراً موضوعه الطبيعة أو المرأة أو القصص أو الأدب بعامة. وحين يأتي إلى التعليل لا يجد بين يديه ما يتبناه سوى تلك الأسطورة التي روّج لها أدب القرن التاسع عشر الأوروبي عن "الروح الخالدة" لكل أمة من الأمم، وخاصة ما دعيت باسم "الروح الآرية" (العلمية المفكرة ومبدعة الفلسفة والخيال) وما دعيت باسم "الروح السامية" (الأدبية الخرافية المادية العاطفية)، مضافاُ إليها تأثير البيئة الصحراوية الأبدية التي أفقدت العربي مزايا وهبات خيال "الآريين"، وأبقت له النزعة الخطابية والمادية!

وفي ظلال هاتين الأسطورتين، يصل إلى أن عصور الأدب العربي الأربعة حسب تقسيمه، الجاهلي والأموي والعباسي والأندلسي، طبعتها الروح البدوية الصحراوية بطابعها، على رغم تغيّر الأطوار الحضارية الذي يقرّ به، إلا أنه لا يرى له أثراً في غير تنوع الأساليب، وتراوح التعبير بين الرقة والخشونة.

والآن، وبعد مرور ما يقارب 88 عاماً على اعتراضات أبو القاسم الشابي على الخيال الشعري عند العرب، ومرور 96 عاماً على اعتراضات العقاد على شعر الإحياء ممثلا بشوقي، نجد في كلمات الشابي مسوغاً حين يقول عن الشعر العربي "لا أزعم أنه لا يلائم أذواق تلك العصور ولا أرواحها، ولكنني أقول إنه لم يعد ملائماً لروحنا الحاضرة ولمزاجنا الحالي ولآمالنا ورغائبنا في هذه الحياة"، ولكن ما يفتقر إلى أي مسوغ هو تقديمه لهجاء مسرف لما سماها "الروح العربية"، واعتماده على دراسات كانت بعنصريتها ومركزيتها الأوروبية أشد وجوه الحداثة عتمة.

وأخيراً اعتماده على الشائع آنذاك من "معارف" بالغة الضحالة عن الوجود العربي وتاريخ الأدب العربي وشعره وأساطيره وملاحمه الأعمق زمنياً من الزمن الجاهلي والأوسع جغرافياً من جغرافية صحراء الجزيرة العربية.

المساهمون