حين تصوّف الأميركيون

14 ابريل 2016
"خطوتان للرومي" لـ مرغريت أبرامشي (مقطع من اللوحة)
+ الخط -

حين صدرت ترجمة حديثة لسيرة حياة وشعر الصوفي الشهير جلال الدين الرومي (1273-1207) في الولايات المتحدة الأميركية، تحدّثت مصادر إعلامية عن إثارة أحدثتها هذه الترجمة في أوساط المثقفين والفنانين وتجّار الدعاية والإعلان وعامة الجمهور، وتحدّثت عن موجة تشبه الحمّى الصوفية من النادر أن تحدث في مجتمع "براغماتي"، أي نفعي، لا يمكن أن تأخذه التيارات الروحية بعيداً عن نزعته العملية مهما بلغت قوتها.

اللافت للنظر في تعليقات صدرت آنذاك هنا وهناك، أنها رأت في هذا الأمر مفارقة، وبعضها خيّل له أن الأمر لا يعدو الاهتمام بمادة "استهلاكية" جديدة، استطاع تطويع هذه الأشعار الشرقية لتنسجم مع رغبات مجتمع آلي استهلاكي.

صدرت هذه التعليقات ومحاولات التفسير بالطبع عن نزعة "تنميط" المجتمعات الإنسانية كما جرت العادة، وعن تجاهل لواقع أن أرضية الاهتمام بالرومي قد لا تكون في هذه المجالات التي لا تتجاوز الاستهلاك وإشباع الرغبات بالغريب والطريف وما إلى ذلك، بل قد تكون في مجال اهتمامات أصيلة ذات جذور في التكوين الروحي لواحد من المجتمعات الغربية، من الصحيح أنه نشأ ونهض بعيداً عن القارة الأوروبية، ولكنه جاء إلى القارة الأميركية مثقلاً بتراث ثقافي ومادي عميق الغور في بلد المصدر، تماماً كما حدث مع الشخصية الروائية روبنسون كروزو، الناجي من سفينة غارقة حين أقام له مأوى على جزيرة بدائية بأدوات الحضارة التي جاء منها، وليس من الصفر كما يُعتقد ويشاع.

النزعة التنميطية، في تعميمها للظواهر الخاصّة بمجال ما، من طبائعها الاختزال والبحث عن السهل غير الممتنع، ومن طبائعها التي برزت في تلك المناسبة "المولوية" أنها تجاهلت حقيقة أن أشعاراً صوفية مثل أشعار الرومي ليست غريبة عن الثقافة الغربية وما تناثر من شظاياها على هذه القارة أو تلك، وأن النزعات الإنسانية أكثر تعقيداً من أن يختصرها هذا النمط العام أو ذاك من أنماط التفسير.

بين مطلع القرن الثالث عشر وسبعينياته عاش جلال الدين الرومي، وتنقّل زمناً قبل أن يستقر في "قونية" التركية، وتنشأ حول طريقته الصوفية مدرسة كاملة ستعرف باسم "المولوية" تواصل بقاؤها حتى العصور الحديثة. ويحتل "المثنوي"، كتابه الأشهر، مكانة رفيعة في عدة بلدان شرقية، وكثيراً ما تعاد تلاوة نصوصه في التجمّعات الشعبية، يرافقها شرح وتفسير لهذا النوع من التجارب، والسعي نحو موقف أخلاقي يتجاوز اختلاف الأعراق والمذاهب، ويصل إلى لبّ الموقف الإنساني.

مثل هذه التجربة ليست غريبة عن متصوّفة الغرب وفلاسفته، فهي تمتلك جذوراً قبل العصر المسيحي في الطوائف اليونانية القديمة ذات الأصول الشرقية مثل الأورفية والفيثاغورية، وتملك امتداداً مُهمّاً في العصور الحديثة في نسيج الثقافة الغربية، خصوصاً مع امتداد مبحث "السعادة" الذي تداولته الفلسفة العربية/الإسلامية بوصفه تأملاً في الغايات، أو في معنى الوجود الإنساني الحق، بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلاديين، والذي سيتبلور في ما بعد في الفلسفة الغربية، التي ورثت تطوّره الفلسفي العربي وأضافت إليه، في صيغة مبحث الوجود الحق كما هو في أعمال هايدغر (1889-1976)، وفي صيغة الوجود الجوهري في أعمال إريك فروم (1900-1980).

لهذا السبب، ولأسباب أخرى تتعلق بالتبادل الثقافي وانتقال الفكر الشرقي وامتداده في بواكير الفكر اليوناني، لا نجد في الاكتشاف الأميركي المعاصر لجلال الدين الرومي، ولجملة من فلسفات الشرق الأقصى في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مثلاً، ما يثير الدهشة أو الاستغراب، بل نجد أن المثير للدهشة والاستغراب هو تأخّر وصول التجارب الإنسانية الموروثة إلى بعض المجتمعات، أو إهمالها وعدم الاعتناء بها، وعدم الغوص عميقاً للتعرّف على الجذور الثقافية المشتركة بين الغرب والشرق.

المساهمون