محمد المرابطي: التشكيل في مراتب الصفاء

31 مارس 2014
نافذة على المحجوب...
+ الخط -

يحتضن "رواق 21 للفن" في الدار البيضاء معرضاً تشكيلياً للفنان المغربي محمد المُرابطي، يندرج ضمن سلسلة معارض، دأب هذا الفنان على تنظيمها داخل المغرب وخارجه، لتعزيز خياراته التشكيلية والجمالية التي راهن فيها منذ بداية مساره على صياغة جملة تشكيلية خاصة ترتكز على توظيف الأثر المقدس والصوفي والمرتفع، وعلى علاقة ذلك بالكائن الأعزل الذي بات عرضة لهجمة التقنية وتحوّل الزمن إلى آلة رهيبة.

يعتبر المرابطي (مواليد مراكش 1968) صاحب تجربة صباغية متميزة في مدونة الفن الحديث في المغرب، وأحد الأسماء النشطة المنخرطة في بلورة طموح التشكيل المغربي للخروج إلى العالم. فرغم عدم تلقّيه تكويناً أكاديمياً متخصصاً، إلا أنه استطاع بجهد فردي وروح منصتة أن يلفت الانتباه باكراً إلى طاقته الإبداعية الخلاقة والمتجددة التي ما فتئ يعبّر عنها في أعماله الفنية. سواء في توظيفه للمادة (مسحوق الرخام مثلاً) كسند أولي يعكس ارتباطه بالأرض، أو في تعامله مع المفردات اللونية الخافتة الخجولة والباردة، أو في اختياره لموضوعات معارضه المنحازة لكل ما يجعل الروح ترتفع بهواجسها وأوضاعها اليومية المأزومة إلى مراتب الصفاء؛ أو في اشتغاله على الخشب كسند عوضاً عن القماش؛ وكلها عناصر تشكيلية تعكس أفكار واختيارات وفلسفة الفنان الجمالية.

ومنذ معرضه الفردي "شذرات من الذاكرة" الذي احتضنه رواق "أ ـ ب" (الرباط) سنة 2011، لم يكف المرابطي عن تَنْخيل مفرداته التشكيلية، بما يجعل تعامله التقني يميل أكثر إلى تلك اللمسة التفقيرية (لا الفقيرة) التي تراهن على إبراز الأهم والبليغ والمؤثر، بعيداً عن كل حشو أو تظليل أو احتفالية زائدة. وهو ما يؤكد وعي الفنان لمأزق الفن الحديث، خاصة على المستوى العربي.

فعلى مستوى استعماله للألوان، يميل المرابطي إلى الابتعاد عن تلك الثرثرة اللونية المجانية، التي قد تتحول لدى بعض فقيري الموهبة إلى مرتكز فني في حد ذاته، غايته تغطية فقر متخيلهم وعجزهم عن الاقتراب من مناطق الفكر والتأمل العالِم، سواء في علاقتهم باليومي والعابر والهش، أو في انشغالهم بشؤون وقضايا العالم الذي يمضي في ترتيب طموحات الأفراد والجماعات على عكس اختياراتهم وميولهم الشخصية والذاتية.

في أعماله الأخيرة المعروضة حالياً، نلاحظ تجاوراً حاذقاً لكيمياء الألوان الحارة مع الباردة والصافية، أو المختلطة في تناسق إقلالي (Minimaliste) واضح؛ استعمال تغلفه طبقة لونية بيضاء شفافة، تعطي الانطباع بأننا أمام تداعيات وظلال لونية، تعكس وتتساوق مع طبيعة الموضوع، موضوع المقدس والصوفي والمرتفع، وبما يبرز شحنة الحجاب الذي يعالج الفنان بعض تجلياته.

أما على مستوى الموضوع، فالأكيد أن المرابطي لا يوفر جهداً للبقاء لصيقاً باختياراته التي رصد بعض ملامحها، دون ادعاء أو تعالم، منذ معارضه الأولى؛ ونقصد بذلك ميله الواضح والجلي إلى كل ما هو روحي وصوفي، عبر توظيف رَسْمة القباب التي عادة ما تقام على أضرحة الأولياء والصالحين، وأيضا عبر تثبيت متوالية الأقواس والصوامع والأبراج في لوحته، مما يحيل، بهذا الشكل أو ذاك، إلى معنى الارتفاع والسمو والنقاء؛ وكلها توظيفات تبرز الحس الصوفي كتربية، لا كمعرفة عالمة فقط، وكترحال لوني "يقود الحواس إلى الخروج من ماديتها، والذهاب إلى سفر عمودي بين الأسفل والأعلى، أو الأعلى والأسفل، وهي رقصة تقوم على إيقاعات التقابل في أعمال المرابطي الذي يعيش مغرماً بالأسرار والسواد " بتعبير طلال معلا.




وتأكيداً لهذا الاختيار الروحي وتثميناً لمسعاه الجمالي والفلسفي، قرر الفنان قبل سنوات الانخراط في مشروع عَمَلي مغامر، طمح من ورائه إلى تعقب خطوات ـ أسفار المتصوف العربي الأندلسي، الشيخ محي الدين بن عربي. مغامرة قادته في سنة 2007 إلى الوقوف أمام قبر الشيخ على سفح جبل قاسيون في سورية، وهو الموقف الذي بقدر ما شكل لديه لحظة انتشاء بهذا التلاقي، بقدر ما خلق عنده نوعاً من التساؤل والارتياب من وضعية مقام الشيخ (موضوعا داخل صندوق من زجاج). إذ يرى أنه ينبغي لمثل هذه الفضاءات، التي تزخر بها البلدان العربية، أن تتحول إلى ما يشبه المتاحف بالمعنى الحديث، وليس مجرد مزارات يلفها كثير من البؤس الذي يُستثمر لاستدرار كرم الزائرين وعطاياهم العابرة.

وفي أعماله، لم يفت محمد المرابطي الوقوف، في لحظة من لحظات صفائه الروحي والذهني، عند بعض ما نطق به لسان ابن عربي، خاصة ما جاء في "كتاب التجليات" الذي يقول فيه "لا تعترضوا على المجتهدين من علماء الرسوم ولا تجعلوهم محجوبين على الإطلاق، فإن لهم القدم الكبيرة في الغيوب، وإن كانوا غير عارفين وعلى غير بصيرة بذلك يحكمون بالظنون". من هنا - في تقديرنا ـ ميول الفنان الروحية التي تقرّب ريشته وألوانه وأشكاله من غيوب كثيرة ما زالت تلقي بظلالها وحُجُبها على العالم.


____________________

يستمر المعرض حتى الخامس من أبريل/نيسان 2014

"رواق 21 للفن" 21 زنقة أبو محاسن الروياني، الدار البيضاء.

المساهمون