أقضي غرضي في المستشفى الحكومي ولا أستطيع العودة. أسأل فيخبروني: عليك الانتظار حتى الخامسة مساءً، فخطوط المواصلات العامة تعمل بربع طاقتها. أما التاكسي؟ لا وجود له، والمحلات مغلقة.
من حَيّ ساريا أمشي إلى "جامعة برشلونة". هناك في ساحة المبنى العريق يفد المتظاهرون من كل فجّ، مشياً هُم أيضاً. ألوف الطلبة لا تسعهم الساحة ولا الشوارع. أغوص في الحشد وأنسى آلام معدتي. الأفق مغطّى باللونين الأحمر والأصفر، لونا علم كتالونيا الذي تتوسطه نجمة من أعلاه.
أتذكر سركون وحنينَه "الشرقي" إلى التخريب. وقتَ كان لا يسمع مظاهرة في عاصمة الإغريق إلا سوّلت له نفسه أن يُشارك وأن "يُخرّب" بالغريزة. لكن لا تخريب هنا، فالزمان اختلف والوعي كذلك. أما الشعارات، فمختلفة لاختلاف السياق ومتشابهة أحياناً. هو يسمع: "يسقط بابانداريو"، وأنا أسمع "الجبان برّه" ـ يقصدون راخوي. و"فيسكا (تعيش) كتالونيا ـ فيسكا فيسكا فيسكا". أسمع: "من أجل جمهورية كتالونيا الاشتراكية" ـ شعار اليسار الجمهوري الكتالاني.
وطبعاً، كما هو شأن أي مظاهرة تخرج في شبه الجزيرة الإيبيرية أو أميركا اللاتينية، فلا بد من المطرقة والمنجل على خلفية لون أحمر. وكذا لا بد من صور للثائر غيفارا. واللافت أن من يردّدون شعارات اليسار الماركسي، هم الشباب من طلبة الجامعات والعمال والموظفون. أغوص في هذا الجو الجماعي، وأسترجع حماسي إبّان الانتفاضة الأولى.
لقد عوّدتني برشلونة أن مظاهراتها ـ أياً يكن الهدف والمطلب ـ مؤنّثة. لكنني لم أراهن بهذه الكثافة الجميلة من قبل. مطالب منطوقة على ألسنتهن، مكتوبة على أجسادهن، بينما حماسهن يفوق حماس الذكور من عمرهن. كل مظاهرة هي مطلبية وعاطفية معاً. وأنت فيها تتماهى مع جماعتك، حتى لتكاد الحشود تتحول كائناً ضخماً بملايين الأذرع والأفواه وعلى نفْس النَفَس.
أمكث في ساحة الجامعة نحو ساعة، وأنحدر باتجاه ساحة كتالونيا. الشارع كلّه يرعش بالأعلام ويرجّ بالهتافات. لكن لا حشود في الساحة الأشهر سوى القليل من السوّاح، بحكم استشعار الخطر وتعطّل المواصلات، ربّما. كذلك هو الحال في شارع لارمبلا. ويبدو أن هذين المكانين كانا طريق عبور للحشود فقط. من كتالونيا أتوجه مباشرة إلى شارع فيا لايتانا (الشارع الوحيد القبيح، لأنه بلا شجر). ثمة عشرات الألوف يغنّون نشيد كتالونيا الوطني.
وكلّما مرّت طائرة الهيلوكوبتر التابعة لمدريد، يرفعون قبضاتهم عالياً مُرعّشين أصابع اليدين، كإشارة استهزاء. بعدها ألاحظ في غير موضع، أن الناس تبلغ ذروة انفعالها مع مرور الطائرات التي تصوّر. بل يكون المرور حافزاً لاستثارة تحدّيهم وسماع أقسى الهتاف.
أحاول عبور فيا لايتانا كي أصل ساحة القديس جاوما. بصعوبة بالغة، أنجح. أودّ رؤية ما يحدث في تلك الساحة الصغيرة التي تتوسط قصر البلدية وقصر الحكومة. فهي الرمز السياسي والاجتماعي الأبرز للشعب الكتالاني.
في طريقي أرى سلال الزبالة وقد طفحت ببقايا الطعام وعلب البيرة الفارغة، ففاضت على الأرض، على غير العادة. أرى بعض المتظاهرين يفترشون الرصيف والأسفلت في استراحة قصيرة، يأكلون ويشربون ويدخنون ثم يعاودون الكرّة.
كل مظاهرة هنا هي يوم لاحتلال الشوارع.
أصل مبتغاي، فإذا مئات من الشباب يرقصون ويغنون ويهتفون، بينما جاوما والشوارع المؤدية إليه مملوءة عن آخرها. يلفتني أن قوات مكافحة الشغب المدريدية، منكفئة إلى الداخل: أربعة عناصر بوليس فقط يحرسون بوابتَي القصرَين، على غير ما رأيتهم يوم الانتخابات، حيث كانوا بالعشرات، وفي حالة تأهب واستعراض. واضح أن الضغط الشعبي وراء انكفائهم، تجنباً لحدوث مزيد من العنف.
من ساحة جاوما أعود القهقرى إلى شارع غرامبيا الطويل الذي يقطع عدة شوارع كبيرة مثل غراسيا. هناك الحماس على أشدّه. عشرات الألوف كذلك. وأنتبه إلى عجائز تسعينيين يلوّحون بالعلم من شرفات العمارات العالية تواصلاً مع المتظاهرين على الأرض. ومرة أخرى وأخرى تمرّ الطائرة الحمقاء وتثبُت في الجو، فتشتعل الدنيا.
ساعة وأعود من حيث ابتدأت: بلاسا يونيفيرسداد. قاطعاً فيا لايتانا وفِرّان والرمبلا، لأجد المظاهرة وقد كبُرت ألوفاً. في الرمبلا من فوق أرى دخاناً كثيفاً في آخر الشارع من جهة كولمبوس، فأظنها "وَلَّعَت"، وحين أقترب أعرف أنها ألعاب نارية ضخمة، لجماعة "القمصان الخُضر".
تقترب الساعة من الخامسة، وأكون جعت وآلام المعدة تفاقمت. فأنتظر وأركب المترو عائداً للبيت، عارفاً لأول مرة منذ خمس سنوات، قيمة المواصلات العامة، فهي عصب الناس هنا، وقليل منهم من يركب التاكسي للضرورة، بسبب سعره المرتفع.
أظنه يوماً ـ هذا الثلاثاء ـ ستعقبه أيام حبالى. فجليّ أن الكتالان يمشون في طريق بلا رجعة. وهناك خوف من خطوة ربما تتخذها حكومة مدريد، كعقاب هو الأقصى من نوعه، حسب محللين هنا: أن تلغي الحكم الذاتي عن الإقليم، بحجة أنهم خانوا مبادئ الدستور. وحينها تستطيع التدخل عسكرياً لإخمادهم بـ"قوة القانون" ـ غير أني أستبعد ذلك.
مع التنبيه إلى أن قسماً من القوى السياسية هنا تريد هذه الخطوة، لتصل الأمور إلى الحافة، وبعدها لكل حدثٍ حديث.
نشر الروائي الإسباني وأستاذ الأدب في "جامعة جيرونا" خابيير ثيركاس (1962) مقالاً في صحيفة "لو موند" الفرنسية يوم الجمعة 29 أيلول/ سبتمبر المنقضي، فحواه أن "دعاة الاستقلال شعبويون". ما أثار موجات غضب نحو صاحب رواية "جنود سالامينا"، خاصة وهو يعيش في كتالونيا منذ طفولته ويتكلم الإسبانية بلهجة كتالانية، ويكتب بشكل مستمر في النسخة الكتالانية من صحيفة "إل باييس" الإسبانية.
ختاماً، لقد شاهدت قبل اليوم، مظاهرات أضخم حجماً (مليونية، بالأحرى)، لكن المختلف الآن، هو عاطفية وانفجار الناس، وكأنْ بلَغَ سيلُهم الزبى. ولديّ يقين، أن الحكومة المركزية لو لم تسحب قواتها من برشلونة، لسال دمٌ كثير. فالحاضر ليس كالماضي. وبالتأكيد يتأتى هذا من إحساس الكتالان بأن العالم مع مدريد، وضدهم. ولا بد أن يُصعّدوا كي ينالوا حلمهم، وإلا فهو الصمت والخنوع لزمن طويل قادم.
* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة