نك كيف: مخاطبات الحزن

30 نوفمبر 2016
كيف في حفل في إيطاليا، 2013، تصوير: أليساندرو بونفيني
+ الخط -

يحتفي المتابعون عادة بالموسيقيين الذين يغادرون الحياة مبكّراً، كـ جيم موريسون وجيمي هيندريكس وجانيس جوبلين، والقائمة تطول بعلامات فارقة تركت بصمات واضحة قبل أن تنطفئ مبكراً.

لعله احتفاء بالحياة وبروح التمرّد في الموسيقى هو ما جعلهم أيقونات موسيقية خالدة. هكذا نخسر موسيقيين بسن مبكر، ويبقى ما أنتجوا من موسيقى جميلة أثناء حيواتهم القصيرة وبعدهم يتواصل فضول قاتل عمّا كان يمكن أن يضيفه التقدّم في العمر ونضوج التجربة.

ماذا تعني استمرارية بوب ديلان أو توم ويتس أو بي جاي هارفي وغيرهم في تقديم أعمال موسيقية جديدة؟ وماذا يعني أن يصدر الموسيقي الأسترالي نك كيف أسطوانته السادسة عشرة مع فرقته "باد سيدز" في سن التاسعة والخمسين؟ يمكننا أخذ كل عمل جديد على حدة، ويمكننا أيضاً تتبّع الفنان وملاحظة تطوّر أفكاره وإنتاجه الموسيقي من خلال التغييرات التي تطرأ على حياته الشخصية أيضاً بطبيعة الحال.

يأتي الألبوم الأخير لفرقة the Bad Seeds بعنوان "شجرة الهيكل العظمي" ليكمل ما بدأه كيف قبل ثلاث سنوات في أسطوانة "ادفع السماء بعيداً" في تقديم موسيقى أهدأ وأرق تبتعد عن أجواء الغاراج والبانك روك، لكنها لا تخلو من تجريب واستكشاف موسيقي.

في المراحل الأخيرة قبل انتهاء الألبوم، توفّي ابن كيف، آرثر، ذو الخمسة عشر عاماً في حادث سقوط من سفح جبلي، ورغم أن معظم الأغاني مكتوبة قبل الحادث، إلا أن كيف أضاف بعض التعديلات في كلماتها والموسيقى بعد ذلك، والنتيجة ألبومٌ قاتم حزينٌ، ثيماته تعنى بالحزن وألم الفقد.

في القطعة الأولى التي تفتح الألبوم: "يسوع وحده"، يغني كيف على جمل موسيقى إلكترونية مينيمالية مدعّمة بأصوات غيتار مشوّهة في هيكلية موسيقية تعتمد على التكرار: "وقعت من السماء، هبطت محطماً في حقل قرب نهر أدور، قفزت الأزهار من الأرض، اندفعت الحملان من أرحام أمهاتها، في حفرة تحت الجسر، تماثلت للشفاء، مرتدياً أقنعة من الأغصان والطين...بصوتي أناديك".

يبدو كيف وهو يغنّي كمن يخاطب ابنه، لكنه في المقاطع الأخرى يخاطب أشخاصاً آخرين أيضاً، ليبتعد قليلاً عن المباشراتية في رواية الشخصي ويربطه بما هو أكبر وأعمق بمخاطبة حالة الحزن الإنساني بمجملها.

يبتعد الفنان الأسترالي في عمله الجديد عن أسلوبه المعتاد في كتابة كلمات الأغاني، فبدلاً من رواية قصص بسرد شخصي متخيّل ينبع من ثيمات محدّدة، يذهب هنا لكتابة كلمات شخصية وعاطفية أكثر تبتعد عن السرد القصصي، ولربما كانت الأغنية التي تعكس ذلك بشكل أوضح هي القطعة السادسة "أحتاجك" التي كتبها كيف بعد وفاة ابنه: "لأنه لا شيء يهم، في الليلة التي تحطّمت فيها كقطار، أزيز السيارات والمطر الساقط، لم يكن شعوراً جيداً، ليس بعد الآن، لأنه لا شيء يهم فعلاً بعد الآن".

صوت كيف في الأغنية متألم وجريح يسير فوق الموسيقى ولا يهتم كثيراً بالتزامن معها ولا بالكمال أيضاً. النقص هنا محتفى به بشكل من الأشكال، ويخرج قطعاً موسيقية صادقة.

وكذا هو الألبوم في مقطوعاته الثماني، رغم أن الحزن والكآبة يطغيان على معظمه، إلا أنه يختم بأغنية تحمل عنوان الألبوم، تبدو وكأنها تقدم استيعاباً لكل هذا الحزن، وتقدّم منفذاً موسيقياً خارجه لتنتهي بتكرار جملة "كل شيء على ما يرام الآن".

كما يستطيع كيف الغناء عن ثيمات الحب والحياة الحديثة، فإنه يستطيع التكلم عن الموت والحزن أيضاً. هناك متعة خاصة في أن تتابع موسيقيين يكبرون سناً، ينتقلون من فترة موسيقية إلى أخرى باستمرارية وإن كانت متقطعة في بعض الأحيان، ينضجون وتنضج أفكارهم معهم. وهذا ما يستمر كيف في فعله؛ القدرة على نقل الحالة الإنسانية بأشكالها المختلفة، والتعبير عنها موسيقياً بشكل متجدّد دائماً.

المساهمون