"العمارة الإسلامية بجزيرة صقلية": الجامعة بين الحُسنين

20 ديسمبر 2017
(كنيسة سان كاتالدو في مدينة باليرمو بصقلية، ماركا)
+ الخط -
قراءات كثيرة قدّمها باحثون عرب وغربيون حول الأثر الإسلامي في أوروبا، جنوبها بالخصوص؛ الإيطالي والإسباني والفرنسي، ومنه الجانب المعماري حيث جرى استعارة خصائص القصور التي تطلّ غرفها العالية على ساحة مركزية أو في تصميم الأقواس المدببة والجدران في القلاع والحصون.

غير أن أغلب أكثر هذه القراءات لم تتخصّص في العمارة، بل تناولتها من خلال استعراض عام للحياة الأدبية والفنية سواء في فترة السيادة العربية أو الحكم النورماندي الذي تلاها، مثل كتاب "العرب وصقلية ملامح الثقافة والفنون" (2017) للباحث العراقي المقيم في إيطاليا موسى الخميسي، الذي انطلق من تحليل للجوانب الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرها على المنتج المعرفي آنذاك، وأيضاً كتاب "صقلية وعمائرها الإسلامية في العصر الفاطمي" (2007) للباحث المصري محمد الجهيني الذي تطرّق إلى سمات العمارة الإسلامية في الجزيرة خلال تلك الحقبة حصراً.

في كتابها "تجليات فنون العمارة الإسلامية بجزيرة صقلية"، الصادر حديثاً عن "مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية"، تتخّذ الباحثة التونسية وجيدة الصكوحي من تخصّصها في الآثار والفنون الإسلامية مرتكزاً لدراسة مجموعة من الأبنية المختلفة، من القصور والمساجد والمعالم في الجزيرة الإيطالية.

توضّح المؤلفة في حديث إلى "العربي الجديد" أنها قامت بزيارات ميدانية إلى مجموعة كبيرة من المباني الأثرية في جزيرة صقلية وتعرّفت عن قرب على أساليبها وأنماطها الزخرفية المنبثقة عن الحضارة العربية، وتحديد تجليات فنون العمارة الإسلامية في هذه العمائر، إضافة إلى مقارباتها بين خصائص العمارة العربية الفاطمية في البلدان العربية وتلك التي وُجدت في أوروبا.

نجد أثراً لهذه الزيارات، ليس من خلال تنوّع المباني التي تتناولها المؤلفة بالدرس فحسب، بل أيضاً نجدها كمادة بصرية عبر مجموعة الصور والوثائق النادرة للتصميمات والمخطّطات المعمارية. تشير الصكوحي، هنا إلى أن العمل يمكن اعتباره استكمالاً لبرنامج تلفزيوني تناول الموضوعات ذاتها، وقامت الكاتبة بإعداده وتقديمه على قناة "البابطين الثقافية".

إلى جانب هذا الجهد الميداني، تشير الباحثة التونسية إلى أنها اعتمدت في منهجية بحثها على عدّة مراجع؛ أولها العودة إلى المصادر التاريخية وكتب الرحالة، والتي ساهمت في إضاءة هذا الجانب على الرغم أن معظمها غير معاصر لفترة حكم العرب لصقلية، بل كتبت في فترة حكم النورمان للجزيرة، ومن أهمها كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" لـ الإدريسي (1099 – 1165)، وكتاب "رحلة بن جبير" لـ ابن جبير الأندلسي (1145 – 1217)، وكتاب "صورة الأرض" لـ ابن حوقل (943 – 969).

وقد دوّن الشريف الإدريسي وصفاً لعاصمة الجزيرة (بلرم/ باليرمو حالياً)، عام 1138 ميلادي، حيث أورد فيه "ولها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها في بناءاتها ودقائق صناعتها وبدائع مخترعاتها"، أما ابن جبير فوصف مدينة باليرمو بقوله: "هي بهذه الجزائر أمّ الحضارة، والجامعة بين الحُسنين غضارة ونضارة.. تتطلع بمرأى فتان، وتتخايلُ بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السِّكك والشوارع، تروق الأبصار بحُسْن منظرها البارع، عجيبة الشان، قرطبية البنيان".

كما استأنست الصحوكي بنتائج البحوث الأثرية القيمة التي قام بها الآثاريون المهتمون بالعمارة العربية في جزيرة صقلية على غرار أعمال المؤرّخ الإيطالي ميشال أماري (1806-1889) الذي كان أوّل المهتمين بهذا الموضوع.

ترك الوجود الإسلامي في صقلية الذي استمر قرابة قرنين، تأثيرات عميقة في جميع الميادين الثقافية والعلمية والاجتماعية حيث تبيّن الصحوكي أن "مجال العمارة والبناء كان الأكثر وضوحاً، خاصة أنهم قد برعوا فيه وأتقنوه، وقد لاقت هذه الأساليب الزخرفية والتقنيات الإنشائية استحسان الملوك النورمان الذين حكموا، فنجدهم قد تبنوها في مشيّداتهم على غرار المقرنص والأرابيسك والنقائش العربية المنفّذة بالخط الكوفي وغيرها".

تلفت المؤلفة إلى أن "هذه المشيّدات عكست أهمية التسامح الديني والعرقي بين خليط من الأطياف الذي أقرَه ذلك التمازج بين كل من الفنون الأوروبية والعربية الإسلامية، حيث تجاورت فيها الأحرف العربية والأحرف اللاتينية، والتقت فيها الرسوم المشرقية والصور الغربية من دون إحداث قطيعة بينها".

يرصد الكتاب تجليات الفنون العربية في جميع أصناف المباني الأثرية الموجودة في صقلية؛ العمارة الدينية ثم بالقصور والحدائق وأخيراً المباني المدنية على غرار حمام شيفالا ديانا، وهو منهج يساعد على فهم وتحليل هذا الجانب وتقديم تفسيرات لها مبنية على أسس علمية.

تؤكّد الكاتبة لـ"العربي الجديد" أن "العمارة العربية الإسلامية في صقلية عكست مظاهر حضارة زاهرة وقوية في الآن نفسه، وكانت لها أسس ثابتة ومتينة بحيث لم تفقد هويتها حتى مع انتهاء فترة حكم العرب للجزيرة، فالحكّام الجدد أُبهروا بهذه الحضارة وتشبثوا بها واندمجوا فيها".

أساس هذه الدراسة قام على "التوثيق لشتى أساليب الزخرفة وتقنيات البناء وفنون التزويق والرسم والنحت في العمارة العربية في صقلية"، ومن هنا تتجلّى أهميته في تقديم مقاربات من شأنها أن تساعدنا على تحديد جذور هذه الأنماط المعمارية وكيفية تغلغلها هناك، وبيان الإسهام الفكري المعماري العربي الإسلامي على المعماريين الأوروبيين خلال العصور الوسيطة بشكل ملموس، وليس فقط كاعتقاد متداول.

المساهمون