حكّاءات جوخة الحارثي

25 مايو 2019
(جوخة الحارثي أثناء تسلّم الجائزة، تصوير: بيتر سامرز)
+ الخط -

في رواياتها الثلاث؛ "منامات" ( 2004)، و"سيدات القمر" (2010)، و"نارنجة" (2016)، تحشد الكاتبة العُمانية جوخة الحارثي (1978) بطلاتها المتعدّدات الحكّاءات المختلفات ليروين تاريخهن الشخصي الذي يصل بين خيال فانتازي ووقائع مرّت في تاريخ بلادها ولمّا تدخل السرد القصصي والروائي بعد.

تقوم بأبحاث معمّقة حول المراحل التي عاشتها شخصياتها ضمن انتمائهن إلى أجيال مختلفة وزمن مديد نسبياً، ما يلزمها الاطلاع على النسيج الاجتماعي ومعمار البيوت والعديد من الأحداث لتكتب، وهو ما أشارت إليه لجنة تحكيم "جائزة مان بوكر الدولية" التي فازت بها منذ أيام، عن روايتها "سيدات القمر" التي صدرت عن "دار الآداب" (2010)، وقامت بترجمتها إلى الإنكليزية أستاذة الأدب العربي في "جامعة أكسفورد" مارلين بوث. يلفت بيان اللجنة إلى أن "الرواية كانت "نظرة ثاقبة خيالية وغنيّة وشاعريّة في مجتمع يمرّ بمرحلة انتقاليّة وفي حياة كانت مخفيّة في السابق". وأضافت "إنّ الرواية منظمة ومبنية بأناقة".

"رواية التحوّلات "هذا هو الوصف الذي منحته لجنة التحكيم للرواية لتؤكد بوضوح استنادها إلى التاريخ، أي إلى الحركة، أي إلى التغيير. فكلّ فصول رواية "سيدات القمر" ترصد عالماً ينهار وآخر يقوم، حياة تتوارى وأخرى تنهض، زمناً يأفل، وآخر يظهر. رصْد هذه الحركات المتباينة المتقابلة هو جوهر العمل، والأساس الذي قامت عليه أحداثه ووقائعه.

كلّ ما في الرواية هو استقصاء نبيه للتحوّلات العميقة التي شهدتها عُمان في العصر الحديث، والتقاط ذكيّ للصراع المستتر حيناً، الظاهر حيناً آخر، بين الذين آمنوا بتطوّر يعيد صياغة الحياة، وبين الذين آمنوا بالجواهر الثابتة تتكرّر ولا تتجدّد، أي بين الذين عملوا على لجم الماضي والحدّ من اندفاعه، والذين حوّلوا الماضي إلى حاضر يعمّ كلّ الأزمنة ويستغرقها.

الواقع أنّ الرواية قد قامت على قصّة كبرى تنطوي على أمشاج من الحكايات الصغرى يتوالد بعضها من بعض وفق منطق مخصوص، لهذا نجد العلاقات بين هذه القصص تنتظم حيناً وتنفرط حيناً آخر، لكنّها في كلّ الأحوال تخضع لنظام مسبق يجمع مفترقها ويشدّ مختلفها. شخصيات عديدة تقتسم غنيمة البطولة، ولكلّ شخصية قصتها: الأخوات الثلاث ميا الخياطة، وأسماء المثقفة، وخولة النرجسية، وظريفة الأمة، والتاجر سليمان، وكلّ شخصيّة رسمتها جوخة بنباهة فائقة وصاغت حكايتها بحسّ مرهف.

بعض هذه الشخصيّات يذكّر بالشخصيات الأسطورية في عنفوانها وقوّتها، وبعضها الآخر يذكّر بالشخصيات الشكسبيرية في ضعفها وقتامة مصيرها، وبعضها أمسك الحياة من لجامها وتمكّن من الانتصار عليها، وبعضٌ آخر استسلم الى مصيره المحتوم من دون احتجاج أو رفض. هذه المرونة العجيبة في طرائق السرد جعلت الرواية نصوصاً عديدة متضمَّنة في نصّ واحد. لكنّ ذلك لا يعني أنّ هذه النصوص منفصلة عن القصّة الإطاريّة انفصالاً كاملاً، إذ إنّ هناك عدداً من الوشائج السرديّة يشدّ النصوص الصغرى إلى القصّة الأمّ شدّ تلاؤم وانسجام.

كلّ هذا يؤكّد أنّ العمل ينظر برأسين اثنين: رأس يلتفت إلى الذاكرة الأدبيّة يستلهم بنية الحكاية وأساليب سردها، ورأس آخر ينظر إلى الحاضر يقتنص مجمل مشاغله وعميق هواجسه، وفي هذه الحركة المزدوجة تكمن قيمة هذا الرواية، بل تكمن قيمة كلّ الأعمال التي كتبتها جوخة الحارثي.

تتحرّك "سيدات القمر" في منطقة وسطى بين الرواية التاريخ، أي بين المتخيل والواقعي، يرفد أحدهما الآخر ويغنيه. هذه الكتابة المفتوحة على الغريب المدهش بينما هي موصولة بالواقعي المعيش، وهي التي ظلّت تغري جوخة الحارثي وتغويها، فأعمال الكاتبة بقيت تجوس هذه المنطقة الغامضة الملتبسة؛ منطقة الما بين حيث تتداخل الحدود بين اليومي والعجائبي تداخل التسوية والتعمية والتشابك.

التفتت الحارثي إلى الماضي مستعيدة فصولاً من تاريخ عُمان القريب الثقافي والسياسي، لكأنّها أرادت أن تصطاد تلك اللحظات الهاربة في شباك الكلمات، لكأنّها أرادت أن تؤبّدها. هذه الفصول، ربما تكون هي التي منحت الرواية والمعنى، وضخّت جسدها بالكثير من الشعر، الكثير من السحر، وربّما هذه الجوانب هي التي حوّلت هذا العمل إلى ملحمة فاتنة تقول الحاضر والماضي، والقريب والبعيد، والمتخيل والمعيش في وحدة لا تنقصم عراها.

وظّفت الكاتبة تاريخ عُمان، فاستدعت مرحلة الاسترقاق، ثمّ مرحلة تحرير الرقّ، ووظفت مرحلة انتقال المجتمع العُماني من نمط اقتصادي قديم إلى آخر حديث، كما وظفت مرحلة انفتاح هذا المجتمع على العالم الحديث بعد انكفائه قروناً على نفسه، كل هذا قدّمته جوخة في ثوب من الغرائبية والواقعية السحرية التي تحوّل القراءة إلى متعة خالصة.

هذه المناخات الواقعيّة السحرية تجسدها، في المقام الأوّل، شخصيات الرواية النسائيّة، فعالم الحارثي هو عالم المرأة المدهش، المرأة السيدة والمرأة الأمة، المرأة القوية والمرأة الضعيفة، المرأة المتمرّدة والمرأة المذعورة.

تقول جوخة في تأويل هذه الظاهرة: "نشأت وسط حدّ من النساء الأسطوريات، كلّ امرأة منهنّ كنز من الحكايات وكلّ حكاية فتنة لا واحدة تشبه الأخرى، كما تأتلف الجواهر على اختلافها.. لقد شكلت النسوة وعيي من العجوز التي لم تمسك كتاباً بيديها قطّ إلى الشابة التي هاجرت للدراسة في أرقى الجامعات.. من الخادمة التي قضّت حياتها تعتني بالآخرين من دون أن يعتني بها أحد، إلى الأميرة التي لم تخرج من قصرها حتى بلغت الخمسين واكتشفت أنّ هناك حياة خارج أسواره.. ".

كلّ فصول الرواية هي مراوحة بين مرجعيّة واقعيّة تحاول أن توثّق لمرحلة من تاريخ عُمان، وترصد كلّ تفاصيلها، وبين نزعة فنّية ترقى بهذا النصّ، على واقعيّته، إلى قطعة فنية لافتة، تنسكب التجربة الذاتيّة فيه بفضاء تخييليّ محض، أي إنّ النصّ، كلّ النصّ تتنازعه سلطتان اثنتان كبيرتان: سلطة الواقع وسلطة الأدب، وبعض فصوله يقترب من العمل التسجيلي يريد أن يكون وثيقة تشهد على فترة مخصوصة من تاريخ عّمان، وبعض فصوله يتجاوز هذا البعد التسجيلي ويسعى إلى تحويل الواقع إلى طاقة إبداع وإنشاء، إلى مصدر فنّي وجماليّ.

وإذا استعرنا عبارات رولان بارت قلنا: إنّ هذه الرواية ظلّت على امتداد فصولها، تخبر عن نفسها فيما تخبر عن العالم الصادرة عنه، وتحيل على ذاتها فيما تحيل على الواقع المتحدّرة منه ناهضة بذلك بوظيفة مزدوجة: وظيفة الإشارة إلى ما هو خارجها، ووظيفة الإشارة إلى نفسها جامعة بين الإبداع والتأمّل في الإبداع جمع تلاؤم وانسجام.

لا شكّ في أن الرواية ليست مرآة صقيلة أو صافية، وإنّما هي مرآة معتّمة لا تلوح على صفحتها الأشياء جليّة واضحة، أي إنّ الرواية ليست نقلاً وتسجيلاً، وإنّما هي تركيب جديد للأحداث. وفي هذا التركيب تتدخّل الذّات لتعدّل، وتقوّم، وتلغي وتثبت، فالكاتبة تحاور الماضي وهو في كنفه، تسائله وهي مستظلّة به. فعلاقتها به ليست علاقة ذات بموضوع، وإنّما هي علاقة رحمية تتضايف فيها المعرفة بالوجود، والتضايف هنا يعني الصلة العضوية التي تجعل الكاتبة صانعة الماضي وصنيعته في آن.

المساهمون