كانَ مساء ماطراً وكانت ليلة حالكة الظلام، لكن الأضواء اللامعة خلف الزجاج الممتدّة على طول البصر منحتني طمأنينة حيثُ شعرتُ بداخلي كطفلٍ أصغرُ من أن ترشدهُ الحياة إلى عمق وعقدة الأشياء بعدُ.
وحين خرجتُ من منطقة فحص الوثائق والحقائب بعدها في المطار، رأيتُ تلك المرأة الكبيرة في السن نسبياً تحملُ اسمي على لوحة، بعينيها الخضراوين الفسيحتين وشعرها الأبيض بنهاياته التي تشبة لون الصحارى عند الغروب.
هي أرسلا بريتزليك، زوجة صديقي المرحوم نيك بريتزليك، التي ستقلّني إلى بيتها في أرقى أحياء لندن، كينزينغتون. تلكَ الليلة ستشكّلُ علامة فارقة عما سبقتها من حياتي في غزة حيثُ ولدتُ ونشأت، وبيرزيت في الضفة الغربية حيثُ أنهيتُ دراستي الجامعية الأولى. انتقلتُ من حياة الطلاب البسيطة غالباً، المليئة بالتستر على التقشّف والأيام الصعاب والمحرجة أحياناً، القائمة على انتظار غدٍ أفضل يوماً ما. ها أنا الآن في حيٍّ راقٍ عريق، حيثُ الشوارع غاية في النظافة، والبنايات بهية الطلّة بحجارتها الحمراء والبيضاء والنوافذ الكبيرة، والأشجار غارقة في اخضرارها ونضرتها.
يكادُ كلُّ شيء هنا يوحي بالطمأنينة والاستقرار. غرفتي الجديدة في الطابق الرابع بين العائلة السويسرية الإنكليزية مريحة، فيها لوحات زاهية أستيقظ عليها كل صباح، والسريرُ مرتبٌ بفراشٍ زاهرٍ بألوانٍ جميلة، والخزانة الخشبية والضوء الذهبي بجانب السرير، كلُّ هذه الأشياء وغيرها تختلف عن حياتي السابقة ببيرزيت. كنت هناك أسعى في سُبلِ الجمال بالخروج من البيت والجلوس على التلّة المرتفعة أمامه لأشاهدَ الأشجار وهي تَحْمِلُ وتتلوّنُ وتتعرّى حسب عادات الفصول، والمدينة الصغيرة بأضوائها البيضاء في الأفق، مرفقاً بكتابٍ ألتهمهُ وكأنّي أريدُ أن أفهم كلّ شيء، وهذا مستحيل بالطبع، ولا أريد أن أُفكّر في غرفتي مجهولة الهوية في الطابق الأرضي هناك.
بدا كينزينغتون مكاناً آخر، وبدا لقائي وتواصلي مع الثقافة الإنكليزية شيئاً حقيقياً ملموساً، حيثُ انغمستُ في هذه الحياة لسنين كثيرة. لم تكن هذه الثقافة غريبة عليّ لأني درستُ الأدب الإنكليزي ببيرزيت وقضيتُ سنوات كثيرة في قراءة الفلسفة الغربية، وخصوصاً لكتّاب بريطانيين. كلّ ما حدثَ أنّني وجدت نفسي في كنفِ عائلة، وحيّ كامل في الحقيقة، يعيشُ ويتنفسُ الثقافة البريطانية، والإنكليزية على وجةٍ الخصوص.
الثقافة التي عرفتها عن قرب من خلال العائلة التي سكنت معها والجيران القلائل الذين تعرفت إليهم تقوم على العقلانية في تناول الأشياء والسخاء النسبي والمبادلات الاجتماعية المتقشّفة والبعدُ العاطفي بدرجاتٍ متفاوتة.
كينزينغتون حيٌّ راقٍ جداً والسكّانُ فيه أغنياء، والوجوه التي يراها الواحدُ لا تبدو كتلك التي بمناطق تقطنها الطبقات المتوسطة أو العاملة.
منذ البداية، بدا لي أني سأعيشُ بعوالمٍ متناقضة، فبين كينزينغتون ومنطقة بلومزبري حيثُ جامعتي، كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (المعروفة بسواس)، هناكَ فروق وفروق. سواس جامعة تحتوي الجميع، وأقصد الجميع، وهي ديوان فكري عالمي بامتياز. بين هذين المكانين ستراوح حياتي لأربعة عشر عاماً، وفي الحقيقة حتى الآن، حيثُ أُدرِّسُ في "جامعة ويستمينستر" القريبة من سواس، والتي هي (نسبياً) بين كينزينغتون وسواس. وكأنه كُتِبَ علي أن أعيش حياة "بين البين…".
تعلّمتُ من تجارب عديدة بمكانٍ متعّدد المِلل والنِحل في لندن أن أرى وأتعامل مع الاختلاف واهتم به، مهما بدا كبيراً وغير مقبولٍ لمن يعيشُ ببيئات متقوقعة تغلب عليها حميّة الوطنية أو العشائرية أو الدينية.
يمكن القول إنّ الثقافة البريطانية معقّدة ومتنوّعة، فيها عناصر مشتركة تحتضنها لغة وتاريخ مشترك وثقافة متشعبة تبلورت في كنف دولة مستقرة نسبياً منذ وقتٍ طويل. لكنها ثقافة طبقات بامتياز: طبقة الارستقراطية والنخبة والبرجوازية، والطبقة المتوسطة، والطبقة العاملة، وطبقات أخرى. لكلٍّ من هذه الطبقات سمات وديناميكيات تميّزها عن الأخرى، لكنها بالرغم من ذلك تشترك بعوامل مهمّة.
وربما ما يميّز بريطانيا عن كثير من الأمّم أنها أرض خُصِبَتْ بالثقافة المرموقة فكّرياً وفنياً وعلمياً، تلك الثقافة قائمة على التدبّر والتفكير العميق والتخطيط الدقيق للأشياء وتمتدّ عبر قرون طويلة، حيثُ أسّسَ لها عباقرة أمثال تشوسر، وشكسبير، وديفيد هيوم، وجون لوك، وتشارلز ديكنز، وداروين، وت س إليوت، وبرتراند راسل، وبرنارد شو، وفيرجينيا وولف، وستيفن هوكينغ، وهيلاري مانتل، وغيرهم وغيرهن الكثيرون.
البريطانيون بشكلٍ عام أناس باطنيون، لا يسرّون بما في عوالمهم الداخلية، وإن فعلوا فإن هذا يكونُ نتاج صراع أو ثقة كبيرة أو صداقة بالشخص محلّ الحديث معهم، وهذا يحدث بالطبع. بواطنهم هي عوالمهم، أما خارجهم فكما قال شاعرهم الكبير شكسبير، "العالم خشبة مسرح"، لذلك عدد كبير منهم قادر على التمثيل والتماشي مع أيّ واقع تقريباً. عندهم شكّ بما هو مختلف عنهم، ويبدون شديدي الثقة بتاريخهم وعاداتهم.
ثم إنّ هناك هدوءا وبرودة أعصاب عند كثير من البريطانيين، لا يحبّون الدراما مع أن عوالمهم الداخلية قد تفيض بها. وتنعكسُ تلك العادات في لغتهم ونتاجاتها الأدبية، فشعرهم يعجُّ بالمشاعر التي تحتاج إلى قراءة داخلية عميقة للكلمات والسبْك اللغوي الذي يسطعُ بالدقّة والموضوعية العاطفية ما أمكن، وروايات كثير منها توغلُ في الخوض بما هو ما وراء الظاهر. إنّهم باطنيون بامتياز.
وتلك الميزة، الباطنية النفسية الجمعية، لها تجليات سياسية وثقافية واجتماعية، منها نتيجة استفتاء الخروج من "الاتحاد الأوروبي"، حيث لم يتوقّع كثيرون أن يحدثَ هكذا شيء. لكن تلك قصة أخرى.
* ناقد وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن، آخر كتبه بالإنكليزية "خارطة للغياب - أنطولوجيا لكتابات فلسطينية عن النكبة"، 2019