تريد أن تسأل الفنان التشكيلي اللبناني، علي حمّود، لماذا اختار هذا العنوان لمعرضه؛ "اختراع العزلة"؟ لماذا "اختراع" بالتحديد، غير أن فكرة العثور على إجابة تخصّك تروق لك وأنت في طريقك إلى المعرض الذي يحتضنه غاليري "شجرة الفن" في بيروت حتى نهاية الشهر الجاري.
العبارة من تلك العناوين التي تجعلك تفكّر في الموضوع أكثر من الأعمال نفسها، لذلك فإن أي متفرّج يذهب وعزلته الشخصية في رأسه، وبهذه النفسية والذهنية يتفرّج على اللوحات.. يبدو غريباً أن يتفرّج على العزلة نفسها عدد كبير من المتلقّين، حضور المعرض، ألا يعتبر هذا تلصّصاً؟
هذا بالضبط ما يفعله رسّامو العزلة، إنهم يجعلوننا نرى ما لا يمكن رؤيته معظم الوقت: ما يفعله المرء وحده. تتناول تجربة حمّود أحد أكثر الطباع البشرية تعقيداً وربما بساطة؛ لماذا يخوض أي شخص تجربة العزلة؟ هل هي تجربة مؤلمة أم أنها فرصة؟ هل نغبط صاحبها أم نشفق عليه؟ يصعب تحديد بوصلة حمّود، لكن في الغالب لا يصلنا أي شعور بأننا أمام تجربة سلبية من العزلة، بالطبع ثمّة برد يظهر في اختيار الألوان الباردة، وفي إخلاء المكان، ونشر الصمت في العمل.
لكن العزلة أيضاً تعني أن لا أحد يهتم. ثمّة امرأة تقف على طرف الإسفلت القاحل، يبدو أنها تنتظر مرور سيارة. ثمة شخص يفتح الباب ويقف في الظلام فقط، آخر يجلس على كرسي، هناك درج وحيد في مدخل بناء ليس ثمّة من يصعد عليه أو ينزل. بنى حمّود عالماً من اللاشيء، تهيمن عليه شخصيات هي لا أحد، العزلة هنا تعادل المجهول، الناس يخفون وجوههم، إمّا تحت نظّارة أو قبّعة، أو إنهم يعطوننا ظهورهم.
ما يلفت النظر في أعمال حمّود، هو تمكّنه من إيصال الشعور بالانفصال، دون أن يعقّد اللوحة، الانفصال عن المحيط بسيط جداً ظاهرياً، مثلما هي اللوحات متقشّفة التفاصيل، الشخص أمامك لا يتحرّك أو يفعل، ولا يبني بينه وبينك جداراً.
حول اختيار موضوع العزلة، يقول حمود في حديثه إلى "العربي الجديد": "إنه متعلّق بالمحيط الذي يجعلنا ننعزل، سواءً كانت الدوافع كامنة في الظواهر الاجتماعية أو السياسية التي تقود الأشخاص إلى العزلة. من هنا ثمة لوحات فيها حالة من الانشقاق الروحي".
أمّا عزلة المكان "فمرتبطة بالطريق الذي سلكه الفنان متدرّجاً من الخارج إلى الداخل، يبني وحدة في الخارج وأخرى في الداخل. ثمّة لوحات فيها عزلة مداخل المباني، ثمّة مساحات تركت فيها الظل يظهر أكثر من صاحبه، ليعطي بعداً ميتافيزيقياً حاولت دائماً توظفيه، الشخص يذوب في المحيط حوله، لذلك اخترت مادة الباستيل التي تترك نوعاً من الغبار ويبدو معها كل شيء ذائباً".
اللوحات محدودة، (30 × 40 سنتيمتراً). يأتي اختيار هذا الحجم ليكون مطابقاً للموضوع، منسجماً مع المساحات التي نعتقد جميعاً أنها ضيقة، في حين تبدو في بعض الأعمال فسيحة وممتدّة رغم صغر العمل. يقول حمّود: "لا أرى العزلة بشكل سلبي، بل غني، أنا كفنان أجد نفسي بين الاثنين، الانطوائي قادر على خلق عالمه من القراءة والعلاقات المحدودة".
عن الفن والعزلة، يوضّح: "الفنان يصل إلى أماكن مظلمة، ويعيش حالة عزلة في الاستوديو وفي روتين أيامه. لديه الفراغ المتأصّل في حياته، في شروده وتفكيره، ثمّة ألم في هذه الوحدة أياً كانت إيجابية أم لا".
يذكر حمّود تجربة ألبير قصيري التي تأثّر بها كثيراً، الكاتب الذي عاش حياته في غرفة فندق في باريس، حتى أن الفنان فكّر في عمل سلسلة لوحات عن الأشخاص المقيمين في فندق أو نزل، ويرى في هذه التجربة تجسيداً لنوع خاص من العزلة.
يستدرك حمود أنه نسي أن يقول شيئاً: "بالنسبة إلى عنوان المعرض، لقد استلهمته من رواية بول أوستر "اختراع العزلة"، ثمّ يكمل: "العزلة التي يتحدّث عنها الكاتب هي عزلة التراجع، بمعنى عدم الاضطرار إلى رؤية نفسه أو إلى رؤية كيف يراه الآخرون. ربما ما قدّمته في هذه الأعمال يعكس هذا الأمر".