يطرح برتولت بريشت (1898 – 1956) في إحدى قصائده الشهيرة: "ثلاث فقرات عن "دستور فايمار"، سؤالاً ما زال يتمتّع براهنية كبيرة: "كل السلطات تنبع من الشعب، لكن في أي وادٍ تصبّ؟". بريشت يسخر طبعاً في سؤاله من النظام الديمقراطي التمثيلي، وهي قطعاً ليست بالسخرية المجانية، بل هي سخرية تسائل طبيعة النظام نفسه.
يتحوّل نقد النظام الديمقراطي اليوم إلى ممارسة شعبوية، رغم أن الشعبوية ليست بظاهرة جديدة على الغرب الرأسمالي، فشبحها لا يختفي إلا ليظهر، بل إنه أضحى من الصعب أن نفهم النظام السياسي الغربي ومعه النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يرسم حركاته وسكناته من دون فهمنا للشعبوية فكراً وممارسة.
إن الشعبوية ظلّ الديمقراطية الذي لا يفارقها، ولم يبالغ تيودور أدورنو حين كتَب بأنه لا يخاف عودة الفاشية في قناع فاشي، بل يخاف عودتها في قناع ديمقراطي! نبوءة أدورنو هذه، نراها اليوم تتحقّق على أرض الواقع في الولايات المتحدة الأميركية كما في القارّة العجوز، تعبيراً عن أزمة عميقة للنظام السياسي الغربي، ولذلك الزواج القسري بين الديمقراطية والرأسمالية.
ولهذا، وضد ما كتبه المفكر السياسي الألماني يان فيرنر مولر في كتابه "ما الشعبوية؟" (2016)، فإنه يُمكن اعتبار الشعبوية حركة احتجاجية خرجت من رحم نظام سياسي اقتصادي، نتيجة انجراره خلف رأسمالية الأسواق المالية المنفلتة من عقالها، تُهدّد ليس فقط مكتسبات الدولة الاجتماعية، بل القيم التي صنعت المغامرة الديمقراطية نفسها. فالتأكيد مثلاً على هويّة أصلية مسيحية ـ يهودية لأوروبا، يُعبّد الطريق أمام "مونوديمقراطية" معادية للأجانب.
الشعبوية ليست حركة غربية فقط، فما يحدث في المركز الرأسمالي يؤثّر على الأطراف، ويشعل نار الأصوليات اليمينية منها واليسارية، وهو ما نشهده في أميركا اللاتينية والعالم العربي اليوم.
يرى يان فيرنر مولر أن التهمة الأساسية التي يتم توجيهها إلى الشعبويين، هي ممارستهم لسياسة تقوم على دغدغة مشاعر الناس، لكنه يُحذّر من اعتبار الشعبوية مجرد "باثولوجيات" أو "وعياً خاطئاً" أو "تزييفاً للديمقراطية" أو "سلطة للدهماء".
أما الشعبويون فيردّون من جهتهم على خصومهم، معتبرين أنهم حاقدون على الديمقراطية، وأنهم يشعرون بالخوف من الشعب ومن "الناس العاديين". لربما هذا ما يُميّز خطاب مارين لوبين في فرنسا التي تعتبر أن الشعبوية دفاع عن المنسيين ضد النخب.
يكتب مولر: "إن نظرية الشعبوية هي بالضرورة نظرية الديمقراطية"، ويرى أن الشعبوية "يمكن أن تظهر غالباً كحركة ديمقراطية أو كديمقراطية راديكالية، لكنها في صميمها تقف على النقيض من الديمقراطية". ويؤكد أننا في مناقشتنا لهذه الظاهرة نحتاج، علاوة على نظرية الديمقراطية، إلى أمر آخر هو التاريخ.
فالشعبوية التي تبدو اليوم كما لو أنها ظاهرة جديدة، قد أكّد علماء اجتماع في الستينيات مثل إرنست غيلنر أنها شبح يطارد العالم. لكننا لا نحتاج فقط في هذا السياق إلى التاريخ وحده، ولكن أيضاً وخصوصاً إلى تاريخ رأس المال الذي يشرح التطوّرات الداخلية التي شهدتها الرأسمالية في العقود الأخيرة، وتأثير هذه التطوّرات على النظام الديمقراطي نفسه.
يزعم الشعبويون أنهم يمثّلون الشعب، وعبر ذلك ينزعون الشرعية عن كل من يعارضهم. أجل، يكتب مولر: "إن كل الشعبويين يقفون ضد المؤسّسة"، لكن في رأيه، "ليس كل من ينتقد النخبة السياسية شعبوياً". إن الشعبويين يقفون على النقيض من المجتمع المتعدّد، ومن يعترض عليهم لا ينتمي برأيهم إلى "الشعب الحقيقي".
كما يؤكد مولر مستشهداً بأستاذه يورغن هابرماس: "إن الشعب لا يتحقّق إلا في صيغة الجمع" و"الديمقراطية تعترف في النهاية بالأرقام فقط: فأصوات الناخبين تُحدّد من سيمثل الشعب (وفي لغة كلود لوفور: في الديمقراطية تعوّض الأرقام الجوهر)". وحتى لو بدا هذا الأمر بديهياً، إلا أنه في رأي مولر يبقى مهمّاً في الصراع مع الشعبويين الذين يزعمون تمثيل الشعب.
ما لم ينتبه له مولر ومعه المفكّر الفرنسي كلود لوفور في مديحهم للأرقام، هو أن سلطتها في الزمن النيوليبرالي تُؤسس لجوهر أو جوهرانية جديدة، إذ الشعب الذي يدخل اليوم لعبة الأرقام، هو شعب شكّلت وعيه الثقافة النيوليبرالية على مقاسها؛ إنه لا يعيش الحرية، بل يستهلكها فقط.
يقترح مولر ضرورة القيام بتمييز واضح بين الديمقراطية والشعبوية، معتبراً أنه لا بدّ من الاعتراف في هذا السياق بأن الديمقراطية التمثيلية المعاصرة تتضمّن عناصر غير ديمقراطية ومنها مثلاً المبدأ التمثيلي، وفي رأيه تظلّ الشعبوية الطريق الخطأ لتحقيق الأوتونوميا الجمعية. غير أنه يُحذّر في الوقت نفسه من نعت كل نقد للديمقراطية بالشعبوية.
إنه يُعرّف الشعبوية كتصور سياسي معيّن، يرفع شعار الشعب المنسجم والأخلاقي ضد نخبة فاسدة، أو نخبة لا تنتمي إلى الشعب. وهو يُطالب في لغة الشعبوي الهولندي غيرت فيلدرز بـ "استعادة الشعب".
يتحدث كلود لوفور عن الديمقراطية كتجربة محددة لمجتمع ما، يتمتع فيها الشعب بالسيادة. لكن هوية هذا الشعب ليست بالثابتة. وهذا ما أدركه حسب مولر الثوّار الفرنسيون والأميركيون، حين اعتبروا "الشعب" مفهوما خطيرا وحاولوا تحديده بمفهوم المواطنة. وفي رأيه، ليس كل من يرفع شعار "نحن الشعب" شعبويا. فهذا الشعار الذي حمله ثوار ميدان التحرير في مصر، مناقض لشعبوية الحزب الحاكم واستفراده بالسلطة. فالديكتاتور لا ولن ينظر إلى الشعب يوما كمصدر للسلطات.