لم تدرس إيلجيه التاريخ في الجامعة، بل إنها لم تنل حظاً من التعليم الأكاديمي إلا على سبيل استكمال بعض ثغرات ثقافتها العامة، على الرغم من أنها تتحدر من أسرة بورجوازية، وإن كان من الجدير هنا الإشارة إلى نقطتين: الأولى تتعلّق بكونها ابنة غير شرعية لأحد أبرز وجوه هذه الطبقة، والثانية أن سنوات شبابها صادفت انهيار البرجوازية في فرنسا، وبذلك تبدو كمن تعلّم التاريخ من خلال حياته الشخصية.
كان مدخل إيلجيه إلى التاريخ هو الصحافة، حيث عملت في الخمسينيات في جرائد متعددة، ثم مالت إلى العمل في دور النشر وهو ما ساعدها على إيجاد وقت أكبر للكتابة. وربما لولا ذلك التوقف عن الصحافة، لما تمكّنت من إصدار كتابها الأبرز "تاريخ الجمهورية الرابعة" في 6 مجلّدات. إذ صدرت الطبعة الأولى منه في 1965. وقد مكّنها هذا العمل من اعتراف القرّاء ودور النشر وحتى المؤرخين الأكاديميين بها.
امتدّت مرحلة "الجمهورية الرابعة" من 1945 إلى 1958. وكان صدور عمل بتلك الضخامة والدقة على مسافة أقل من عشر سنوات أمراً جديراً بالتحية، ولن يخطر على بال قارئ أن صاحبة هذا العمل الموسوعي كاتبة عصامية، وخصوصاً أن الكتاب يظهر معرفة شاملة بالبرلمانيين وزعماء الأحزاب وحتى رؤساء البلديات ومستشاريهم، كما انفتحت بشكل عفوي على القوى الاجتماعية غير الممثلة سياسياً، مثل الطلبة والمهاجرين والتجمعات المهنية الصغيرة.
في 2012، وحين قامت دار النشر "فايار" بإعادة طبع الكتاب، مثّل ذلك حدثاً ثقافياً أعاد إيلجيه إلى الواجهة الثقافية. وقد أشارت وقتها إلى أن أكثر ما أفرحها في هذا العمل أنه اعتبر محايداً ومنصفاً لكل الأطراف، على الرغم من أن الساحة الثقافية في فرنسا كانت تعرف قربها من الرئيس اللاحق لفرنسا فرانسوا ميتران، الذي عملت معه خلال ولايته في سنوات الثمانينيات كمستشارة.
هكذا بدت المؤرّخة التي لم تمرّ من مسارات التكوين المتعارف عليها أكثر من حصّلت ثقة القرّاء الفرنسيين. وبداية من السبعينيات، دخلت تجربة جديدة في الكتابة التاريخية، حيث اعتمدت على مدوّنتها الشخصية من مذكرات ويوميات وملاحظات كانت تدوّنها أثناء اشتغالها بالصحافة والنشر، لكتابة تاريخ أسرتها، ومن خلالها يتحسّس القارئ تاريخ فرنسا برمّته.
صدر عملها الأول في هذا السياق سنة 1973 بعنوان "النافذة المفتوحة"، ثم أتبعته بكتاب "كل النوافذ مفتوحة". وهي هنا، أثبتت أنها منفتحة على فضاءات ثقافية أخرى، فلا ننسى أن السنوات نفسها شهدت بلورة ما بات يعرف "بالتخييل الذاتي" (سارج دوبروفسكي)، وأيضاً كتابات بول ريكو الفلسفية عن السرد والزمن، وفيها يقرّب المسافة بين الأدب والتاريخ، حتى انتشرت قناعة بأن التاريخ أقرب إلى أن يكون جنساً أدبياً منه إلى حقل علمي.
في السنوات الأخيرة، يمكن القول إن الخيار الذي مضت فيه إيلجيه هو المسلك الذي تتقدّم فيه الكتابة التاريخية، فقد أخذ الذاتي مكانه بالتدريج في كتب التاريخ وباتت المعرفة الميدانية ذات أهمية بالقدر نفسه - وربما أكثر - من الاشتغال على المراجع والوثائق الرسمية.