كثيراً ما كانت الحياة السياسية في تونس مدخلاً أساسياً لفهم واقع الثقافة، وليس 2019 استثناء في ذلك، بل لعلّ من المستحيل مقاربتها دون العودة إلى الأحداث السياسية، وأهمّها الانتخابات التشريعية والرئاسية (تشرين الأول/ أكتوبر)، واللتان أفرزتا مشهداً جديداً يتأرجح بين أن يكون جديداً قاطعاً مع توجّهات المرحلة وبين أن يكون استمراراً مع تغيير بعض الوجوه، وانتهت بمخاض تشكيل حكومي عسير (كانون الأول/ ديسمبر) يشير إلى صعوبة التوفيق بين متناقضات المشهد. ولعل الأمر غير بعيد في الحياة الثقافية.
منذ الثورة (2011)، بدا أن "المنشّط" الرئيسي للثقافة في تونس، وزارة الثقافة، قد فقدت الكثير من سطوتها ومركزيتها، غير أن السنوات الأخيرة شهدت عودة تدريجية للمواقع القديمة؛ بدايةً باحتواء تظاهرات بدا أنها أخذت مسافة من السلطة مثل "أيام قرطاج المسرحية"، أو قطاعات مثل صناعة الكتاب أو فنون الشارع.
تقف أسباب كثيرة وراء هذه العودة، ومنها ما يتعلّق بالبنية التحتية الثقافية خصوصاً مع إنشاء "مدينة الثقافة" في قلب تونس العاصمة، منذ السنة الماضية، والتي أنتجت تمركزاً للفعل الثقافي بين أروقتها، وصولاً إلى إدارة توزيع الامتيازات، وقد انتهت 2019 بموجة من التكريمات التي أطلقتها وزارة الثقافة لا نجد لها مثيلاً من قبل؛ مسرحيّون، وكتّاب، وناشرون، وصحافيون، وغيرهم كثير "نالهم شرف التكريم"، كما ورد في تدوينة تكاد تكون نفسها في صفحات هؤلاء على فيسبوك، مع صورة مع الوزير محمد زين العابدين ورئيس ديوانه، وهو ما أثار الكثير من السخرية في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ذلك تدوينة للمسرحي التونسي غازي الزغباني يقول فيها: "نالني شرف عدم التكريم".
أتت موجة التكريمات هذه في نهاية تولّي محمد زين العابدين للوزارة، مع الاستعداد لدخول مرحلة سياسية جديدة، فهل الأمر متعلّق بحركة رمزية لمن تعاون معه خلال "ولايته" أم هو إشارة لفهم الدولة للثقافة كعلاقة زبائنيّة؟
ليست "موجة" التكريمات تلك سوى إشارة إلى منطق إرادة الحياة الثقافية في تونس، توازيها حيوية في تنظيم التظاهرات (توزيع مناصب الإشراف عليها لا يبتعد كثيراً عن منطق التكريمات) والتي توحي بحياة ثقافية مزدهرة، غير أن اللامع على مستوى الإنتاج قليل، ولا ننسى هنا أن نظام الدعم الرسمي لا يزال من المحرّكات الأساسية للإنتاج الثقافي، وإن كان من الجدير الاعتراف بأنه الضمانة الأساسية لاستمرار مجالات عديدة بحكم ضعف الإمكانيات البديلة.
انعكاس السياسة كان واضحاً في إصدارات 2019، ومن ذلك إطلاق "موسوعة الربيع العربي في تونس" للمؤرّخ الهادي التيمومي، ومواصلة شكري المبخوت مشروعه "تاريخ التكفير في تونس" الذي صدر جزؤه الأول في 2018، وشهدت 2019 صدور جزء ثان بعنوان "أبناء بورقيبة"، كما صدر كتاب "المعادلة التونسية" لـ الصافي سعيد، وكتاب "دفاتر الملح" الذي جمع شهادات سجينات رأي سابقات أشرفت على تحريرها الكاتبة العراقية هيفاء زنكنة.
وقد امتدّ الانشغال السياسي إلى الرواية؛ ومن ذلك "الطريق إلى محتشد رجيم معتوق" لعمّار الجماعي، وفيها عودة إلى لحظة تشكّل فيها جزءٌ من النخبة السياسية اليوم، وهي في ذلك غير بعيدة عن "مرآة الخاسر" لشكري المبخوت، وإن اختلفت المقاربات والمسافات مع الواقع، إضافة إلى روايات أخرى مثل: "ورقات من دفاتر الخوف" لـ أبو بكر العيادي، و"بيت العناكش" لـ سمير ساسي.
ولعلّ من أبرز النقاط المضيئة في 2019 ظهور نزعة في تحليل السياسات الثقافية ومن ذلك إصدارات مثل "السياسات الثقافية في البلاد التونسية" لـ حاتم زير، و"الأنتليجنسيا التونسية بين تاريخ الأحقاد ودولة الفساد" لـ مصطفى الكيلاني، و"السياسات الثقافية للدولة الاستعمارية (1881 - 1956) لـ جلول ريدان، ولنا أن نضيف كتاب "الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة" لـ الصغير الصالحي.
مسرحياً، برزت هذا العام أعمال الجيل الجديد من المسرحيّين، مع تراجع (كمّي) للأسماء البارزة منذ عقود، لتبرز مسرحيات: "مدام م." لـ آسيا الجعايبي، و"سيكاتريس" لـ غازي الزغباني، و"دونكيشوت كما نراه" لـ شاذلي عرفاوي، و"سوق سوداء" لـ علي اليحياوي، و"سكون" لـ نعمان حمدة، و"قصر السعادة" لـ نزار سعيدي.
كما يمكن أن نسجّل بعض الالتقاء بين دوائر المسرح والكتاب مع صدور سلسلة "مكتبة موليير" التي اقترح فيها سمير بن علي المسعودي ترجمات جديدة إلى العربية لمسرحيات المؤلّف الفرنسي، وصدر كتاب "المسرح التونسي وعوائق التجاوز" ضمن إصدار الأعمال الكاملة للناقد أحمد حاذق العرف.
هذا الانعكاس في المؤلّفات لا نجد نظيره في مساحات ثقافية أخرى مثل الفنون التشكيلية أو الفنون الأدائية الأخرى، والتي تحظى بمهرجانات كثيرة لكن مرئيتها تظل منحصرة في جمهور مضيّق. هذه المجالات الثقافية تجد بعض "التنشيط" من خلال مبادرات وزارة الثقافة؛ ومنها بالخصوص "مدن الفنون" و"مدن الكتاب"، ناهيك عن سلسلة "أيام قرطاج"، والتي كانت منحصرة في السينما والمسرح، لكنها اليوم باتت تمسح مجالات أخرى، مثل الأدب المهجري والفنون المعاصرة والهندسة المعمارية. فهل يكفي تنظيم التظاهرات لإرساء دينامكية في هذه المجالات التي لا تخلو من طاقات إبداعية؟
الإجابة عن سؤال كهذا تقتضي الفصل بين تصوّرين للثقافة، الأول باعتبارها إنتاجاً مجتمعياً عفوياً، والثاني باعتبارها تنشيطاً للفضاء الاجتماعي. في تونس، يبدو التصوّران في نوع من الصراع المستمر، إذ لا يزال التصوّر الثاني مهيمناً على الرؤية الرسمية، مقابل ميل من قوى اجتماعية أخرى، ومنها الجامعة، إلى التصوُّر الأول، غير أن المشهد يشير إلى إشكالية تتعلّق بكون المساحة التي تملؤها الدولة في الحياة الثقافية لا يوجد من يملؤها من قوى المجتمع، وهو نوع من الإعاقة التي فرضتها "سياسات ثقافية" كثيرة في تونس، ولا بدّ من بدء التفكير في تجاوزها، خصوصاً حين ننظر في العالم حولنا، بخياراته النيوليبرالية، مع تخلّي الدول عن الثقافة باعتبارها إحدى الخدمات الاجتماعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تجربة بوجهين
انتهت السنة الثقافية بـ"المعرض الوطني للكتاب التونسي" (19 - 29 كانون الأول/ ديسمبر)، وهو مبادرة لإنشاء فضاء لتواصل الناشرين التونسيين مع القرّاء بعيداً عن التنافس الذي يبدو غير متكافئ مع دور النشر الأجنبية في "معرض تونس الدولي للكتاب" الذي يقام سنوياً في نيسان/ إبريل. استطاعت التجربة في دورتها الثانية أن تُظهر تطوّرات في كمية الإصدارات، كما كشفت، من جهةٍ أُخرى، هشاشة القطاع ومحدودية رهانات الكثير من الفاعلين فيه.