بيار رابحي.. هواجس المفكّر-المزارع

19 يوليو 2019
بيار رابحي
+ الخط -

على مدى تاريخه، القصير نسبياً، كان الفكر الإيكولوجي فجائعياً في الغالب، يشير إلى الكوارث التي ستصطدم بها البشرية نتيجة الخيارات التصنيعية والرأسمالية، وفي ما عدا توسّله بالدولة وقوانينها، ثم بالمجتمع الدولي في وقت لاحق، قلما قدّم هذا التيار الفكري تصورّات عملية لإنقاذ الكوكب من الكوابيس التي يتجه صوبها.

يقف المفكّر الإيكولوجي الفرنسي من أصول جزائرية، بيار رابحي (1938)، على مسافة من هذا الخيار حيث يرى بعدم جدوى هذه النبرة الفجائعية، موجّهاً جهوده نحو طرح عمَليٍّ لتغيير هذا الواقع، انطلاقاً من إعادة بناء العلاقة بين الإنسان والأرض، ومن أجل ذلك لا يكتفي بالمعرفة العلمية والتقنية إذ يُرفد ذلك بكتابة تخرج من الدائرة البحثية الضيّقة إلى قراءات موسّعة في التاريخ والفكر والعلاقات الدولية، وتتنوّع أجناسها بين السيرة الذاتية والرواية والشعر إضافة إلى مؤلفات تنظيرية بحتة مثل "الضمير والبيئة" و"الإيكولوجيا والروحانيات".


تسميم الأرض
يقول رابحي، في لقائه مع "العربي الجديد": "يمكن أن أوجز كل انشغالي في محاولة الإجابة عن سؤال: كيف يلبّي الإنسان حاجياته دون أن يكون ذلك على حساب الطبيعة؟ سؤالٌ يبدو غائباً عن العقل المنفعي المهيمن على القطاعات الفاعلة في العالم مثل الاقتصاد والسياسة وصولاً إلى العلم، ومن فروعه الهندسة الزراعية التي تنتج إحدى أخطر معضلات عصرنا، وهو إجبار البشرية جمعاء على أن تأكل غذاءً ملوّثاً باسم المردودية وتوفير الغذاء للجميع، وهي مغالطة؛ حيث أن هذا التوجه لم يفرز سوى مزيد من التجويع".

يضيف: "هناك توازن مفترض في الأخذ والعطاء بين الطبيعة والإنسان. حدث أنَّ الإنسان أراد أن يأخذ أكثر من حاجته لتبدأ لعبة التحايل التي انخرم من ورائها التوازن الذي حكم العلاقة بينهما لقرون".

يلتقي رابحي هنا بفكرة ظهرت بقوة في كتاباته، وهي اعتباره أن الأسمدة والمعالجات الكيماوية في الزراعة ليست سوى تسميمٍ للأرض والحياة. بحسبه، فإن "المعالجة الكيماوية للأرض، وعلى عكس الترويج العلمي لها باعتبارها فهماً متقدّماً للطبيعة، إنما هي وعيٌ متأخّر، فهي ليست سوى المنهج الزراعي الأبسط والأسهل، حيث يجري تطبيق نجاح التجربة الكيماوية في المختبر على الأرض الحية، وهذا اختزال خطير يعبّر عن عدم فهم شامل للحياة وتفاعل مكوّناتها. لكن المعرفة الجزئية نجحت في أن تفرض نفسها على المنطق الكوني".

يضيف: "هذا الخطأ كان في قرون سابقة غير مقصودٍ لكن الأمر اختلف اليوم، بتنا جميعاً نعرف خطورة هذا التوجّه، إلا أن هناك مصالح تدفع نحو مواصلة السير في الخطأ نفسه، وأخشى ما نخشاه أن التحالف العلمي - التقني - السياسي - الربحي لن يتوقف إلا حين تنتهي الثروات".


إعادة المعنى والسعادة
وُلد صاحب "أقوال الأرض" في بلدة القنادسة (جنوب غرب الجزائر)، واسمه الأصلي رابح رابحي. في سنوات طفولته الأولى اكتسح داء السل البلدة الجزائرية، فعهدت أسرته بتربيته إلى عائلة فرنسية انتقل معها إلى وهران أولاً ثم إلى فرنسا حيث واصل حياته، محقّقاً مساراً علمياً - عصامياً في جزء كبير منه - في مجال الهندسة الزراعية، وهو تخصّص لا يمكن أن نختصره مع بيار رابحي في دلالته المهنية أو المعرفية فحسب؛ حيث أنه جعل منه العمود الفقري لحياته منذ أن قرّر في سبعينيات القرن الماضي العيش كمزارع، أي في علاقة مباشرة مع الأرض والنبات، موضوع بحثه، كما أنه قد جعل من هذه العودة إلى الحياة الزراعية دعوة عامة لإعادة إنتاج المعنى والسعادة البشرية دون أن يعني ذلك انقطاعاً عما يتيحه التقدّم من وسائل تقنية تساهم في تسهيل الحياة.

يقول رابحي: "من المهم أن تعود الزراعة إلى حجمها البشري، فما نراه اليوم هو فرض نموذج المصنع على الحياة الزراعية، فنحن أمام تصنيع زراعي وليس زراعة بالمعنى الدقيق، والتصنيع الزراعي يختزل الأرض في كونها مؤسسة اقتصادية، إضافة إلى كونها تتجاوز بدرجات الحجم البشري، ما يُنهي بالتدريج علاقة الإنسان بها، وهذا وضع خطير ومُحزن".

ما الذي يمكن فعله حيال هذا الوضع؟ على عكس أغلب الإيكولوجيين، لا يقول رابحي بالضغط على الحكومات، فلا يمثّل ذلك سوى جزء هيّن من الحلّ. يوضّح صاحب "مانيفستو الواحات" أنه حين ينظر في استرتيجيات الدول تجاه البيئة يجد بأنها عبارة عن "حلول تفرضها الخسائر، وكأنه علينا في كل مرة أن نخسر من الغابات والبحار والمساحات الصالحة للزراعة الكثير لنبدأ في التدخّل والتفكير في حلول، دون التفات إلى أن هذين الأمرين يسيران بسرعتين مختلفتين، فالخسائر البيئية تسير على نسق يومي بينما تسير المعالجات بنسق سنوي".

هذه الوضعية لها واقع أشدّ قسوة في بلدان الجنوب، حيث أن السياسات البيئية لا تأتي في الغالب إلا من إملاءات غربية ضمن الاتفاقات الدولية خصوصاً. هنا يلفت رابحي إلى أن "المشاكل البيئية في الجنوب متعلقة أساساً بمعضلة فرضها الغرب عليه، فخلال المرحلة الاستعمارية عمّم الغرب الزراعة الصناعية واستعمال الكيمياء، وبالتالي جرّ الجنوب إلى ورطته". مقابل ذلك، يعتبر المفكّر الإيكولوجي أن "الجنوب هو الأقدر اليوم على الخروج من الورطة وإنقاذ نفسه والغرب منها".


ذكاء قابل للاستعمال
وحول ما يطرحه الفكر الإيكولوجي بشكل عام على المجتمعات، يقول: "ربما يوجد إطناب في تحليل العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وهذا البعد على أهميته يبقى أقرب إلى منطق وصفي منه إلى أداة إنقاذ. على الفكر الإيكولوجي أن يسير على جبهتين: عملية ونظرية وأن يكون هذان البعدان متداخلين. أما مُنتجه النافع للناس فهو توفير وسائل يضعها بأيديهم، أو بعبارة أخرى توفير ذكاء قابل للاستعمال من الجميع لأنهم جميعاً معنيّون بمصير هذا الكوكب".

هنا يعرّج على تجربته كمؤلف، يقول: "أحاول أن أترجم عبر الكتابة ما أقوم به. كانت لي تجارب كثيرة في بلدان متعدّدة. تظلّ هذه التجارب محدودة بإطاريها المكاني والزماني، لكن الكتابة تضعها في مرتبة القابل للاستعمال. ربما يندرج ذلك ضمن تصوّر عميق أحمله لفعل الكتابة، والذي كان تاريخياً محاولة لتثبيت ما ينبغي أن يبقى وحمايته من الضياع الأبدي".

وحول خيارات الأجناس التي يعتمدها، يقول: "أكثر مؤلفاتي هي من نوع الشهادة، وهي بالنسبة إليّ ليست أعمالاً في الزراعة أو في الفكر الإيكولوجي فقط، إنها محاولات في ما أسميه بـ"فلسفة الحياة" والتي نمارسها، في وجه من وجوهها، عبر تجربة الكتابة، كما أن الزراعة بالنسبة إليّ هي وجه من وجوهها أيضاً. لا أحبّ أن تكون كتاباتي دروساً، هدفي هو المساهمة في تفكير جماعي يساعد في إنتاج المعنى للحياة المهدرة في السوق الاستهلاكية".


عالم يجري تفريغه
تظهر بقوّة في مؤلفات بيار رابحي آثار العمل الجماعي، سواء في مؤلّفات ثنائية أو جماعية، أو حتى في تلك التي يظهر فيها توقيعه وحده، حيث يستند إلى حكايات حية ضمن تجاربه الحياتية والزراعية يذكر فيها بالتفصيل أسماء الأماكن والأشخاص، ومنها مثلاً محاولته في تسعينيات القرن الماضي إنقاذ واحة قابس (جنوب تونس) وتجارب أخرى في النيجر ومالي وأرديش (فرنسا).

من وجوه العمل الجماعي أيضاً انتماؤه ومساهمته في تأسيس عدة هياكل تُعنى بالبيئة وقضاياها، مثل "أرض وإنسانية"، وخصوصاً "حركة كوليبريس" التي تُعدّ اليوم من بين أنشط المنظّمات الإيكولوجية في العالم، خصوصاً أنها تضيف بُعداً تربوياً للمسألة الإيكولوجية. في كل ذلك، يبدو رابحي وقد أسقط خيار الضغط على الحكومات من حساباته، وهي الورقة التي تمثّل اليوم الصوت الأعلى في الحركة الإيكولوجية بشكل عام.

يشير رابحي إلى أنه لا يمكن التعويل على الدول، ولا حتى على المنظمات الدولية، في قضية البيئة، فهي في النهاية خاضعة لموازين قوى، منبّهاً إلى أن شركات الأسمدة تمثّل قوة ذات مصالح عابرة للقارات شبيهة بمصالح الصناعات الكبرى مثل الأسلحة أو الطاقة. يضيف: "في الحقيقة، لقد خلقت هذه الشركات معظم معضلات العالم الحديث منذ القرن التاسع عشر، فقد حاربت الفلاح البسيط وأخضعته، من خلال الدولة أو من خلال القروض، فاضطر أن يغادر الأرض أو يبدأ في تنفيذ أجنداتها، حتى أن الأرض التي كفت الناس لقرون طويلة باتت في كثير من مناطق العالم عاجزة عن ذلك".

يتابع: "كانت الآلات تعوّض المزارع بالتدريج وتخلق مسافة بين المزارع وأرضه ما زاد من نسق مغادرة الأرض. وكان كل مُزارع تخسره الأرض يذهب صوب المدن التي باتت تحتاج أكلاً أكثر، وبناءات أكبر، وبالتالي تفريغاً أكثر للغابات من الخشب. نتيجةُ هذا العرض السريع أن عالم الزراعة قد جرى تفريغه من الداخل". يقول: "لم يعد هناك الكثير من المزارعين، صار هناك وكلاء زراعة، وهؤلاء علاقتهم بالأرض منفعية باردة. أعتقد أن هذا أكبر فخ وقعت فيه البشرية".


إعادة بناء حكاية الاستعمار
تبدو حكاية المُزارع الذي غادر أرضه مثل سردية أساسية في فكر رابحي ولها تنويعاتها التي تساعد في فهم الفروقات بين واقع وآخر، فمثلاً يعيد سرد قصة الاستعمار انطلاقاً منها فكأنه يركّب من جديد القصة المعروفة على المستويين السياسي والعسكري بمفردات عالم الزراعة، فالاستعمار هو في النهاية تفريغ لأزمات محلية في مجتمعات أخرى، والزراعة تمثّل إحدى هذه الأزمات، وما قامت به أوروبا هي أنها "نقلت معضلتها إلى العالم".

يقول صاحب "الإيكولوجيا والروحانيات": "في بداية القرن التاسع مع الثورة الصناعة ثم مع الحروب التي بلغت ذروتها مع الحرب الكبرى في 1914، كانت أوروبا قد خسرت أحد مقومات الحياة فيها، وأعني الزراعة حيث ذهب المزارعون إلى المدن ليموتوا بداية في المناجم والمصانع، وثم ليموتوا كجنود في الحرب". يتابع: "لم يكن هناك مخرج بعدَ هذا المسار التاريخي سوى الاستفادة من المستعمرات، هكذا بدأت عجلة التخريب الزراعي تتعمّم في العالم، وقتها كان ملايين الهنود والأفارقة وغيرهم يعيشون من أراضيهم، وبدل أن تتعظ أوروبا من الدرس حملت خطيئتها إلى بقية العالم".

تكتمل هذه السردية في حكاية موازية، عن المزارع الجنوبي، هذا الذي "أتاه الأوروبي وقال له إن الزراعة بالطرق التي توارثها عن الأجداد عبارة عن مضيعة للوقت والجهد، وأشار له أن ينظر في حال المَزارع الحديثة التي تنتج أكثر". كانت تلك المزارع الحديثة التي أنشأها المعمّرون تبحث عن يد عاملة لتصنع معجزتها الوهمية. يقول رابحي: "كثيرون تركوا أرضهم واشتغلوا برواتب في حقول الأوروبيين. كانت الرواتب في البداية جيدة، لكن مع تراكم المنتجات الزراعية وتعوّد المستهلك في الأسواق الأوروبية بها، تقلّصت أسعار بيعها فتقلّصت الرواتب، لكن لم يعد من الممكن وقتها العودة إلى الأرض التي أُهملت لسنوات، وكثيراً ما ذهبت هي الأخرى إلى المالك الأوروبي بأبخس الأثمان".


تآكل الإنسان
كل هذه الحكايات تصل بالمفكر الإيكولوجي إلى وضعنا اليوم، حيث سُرقت الزراعة من الإنسان، ومن الطبيعي بعد ذلك أن يشعر بالتوهان في العالم. أكثر من ذلك، يرى رابحي أن كل فرد في العالم يقف يومياً أمام تساؤلات خطيرة في أبسط ما يعيشه: ماذا يعني أن يتوفر كل شيء ولكن بلا طعم؟ ماذا يعني أن تتكدّس الثروات ولا يكون هناك أثر للسعادة؟ ماذا يعني أن تتراكم المعارف ولا يكون من ورائها أي معنى؟".

يقول رابحي: "ربما ننتبه إلى الكوارث الكبرى. ننتبه إلى أن حيوانات ونباتات قد انقرضت، لكن هل ننتبه إلى أن نكهات وروائح قد انقرضت. انقراض نكهات وروائح تعني أيضاً أنّ مشاعر وأحاسيس بشرية بصدد الانقراض". يذكّر هنا بمفهوم "أثر كعكة بروست" في علم النفس (أثارت رائحة الكعك الذاكرة العميقة للشخصية في رواية "البحث عن الزمن المفقود")، أي أن موت النكهات والروائح في عالم الزراعة هو من علامات تآكل الإنسان.

وحول سؤال عن عدم ترجمة أعماله إلى العربية، يقول رابحي: "أشعر أنه توجد حلقة مفقودة بين الكتابات الإيكولوجية بشكل عام والثقافة العربية، لكن لا يمكنني الجزم بذلك لعدم إلمامي بما يُنشر عربياً. بالنسبة إلى مؤلّفاتي، الأرجح أنه توجد مشكلة متعلّقة بمنظومة النشر في العالم العربي، يبدو أنه ليس هناك طلب على مثل هذه الكتابات".

قد يظن البعض أن من عوائق ترجمة الفكر الإيكولوجي امتلاء مدوّنته بالمصطلحات العلمية، لكن رابحي يشير هنا إلى أن أعماله وصلت إلى "لغات كثيرة غير أوروبية مثل اليابانية والكورية وحتى بعض اللغات غير الرسمية في أفريقيا، وهو ما يعني أن ذريعة اللغة غير مقنعة".

يؤكّد رابحي بأن "على الفكر العربي أن يتحمّل مسؤوليات كثيرة في المسألة الإيكولوجية العالمية، بدءاً بالوضع البيئي الكارثي في المنطقة نفسها، وصولاً إلى كونه في موقع أفضل من أوروبا التي تمثّل أصل المشكل الإيكولوجي العالمي وتحتاج هي نفسها لبدائل لفكرها".

في غياب هذا الانتباه العربي، يعتبر رباحي بأن "العالم العربي يجعل من نفسه مجدداً ضحية أزمات الغرب، مثلما كان الحال في الفترة الاستعمارية".

يختم بالقول: "الثقافة العربية لها رصيد من الفكر الزراعي والعلمي، إضافة إلى رصيد على مستوى الحكمة، وهذا كله ينبغي توظيفه في المعركة التي يخوضها الفكر الإيكولوجي ضدّ تخريب الكوكب".