ظهر في العراق في منتصف القرن العشرين مجموعة من المعماريين المتميّزين الذين درسوا خارج البلاد، في بريطانيا غالباً، وعادوا إليها مشبعين بروح وطنية ونفَس حداثي. انغمس هؤلاء المعماريون العائدون في النضال الوطني وفي التحديث المعماري على حد سواء، في الفترة التي كان العراق يناضل فيها للحصول على استقلاله. وساهموا - كل على طريقته - في إرساء أسس العمارة المعاصرة في العراق، بالإضافة إلى مشاركتهم في إرهاصات الثقافة والفن الحداثيين التي كانت قد بدأت بالتشكل في بغداد وغيرها من المدن تحت مسميات عدة.
في تصميماتهم وفي تنظيراتهم، أراد هؤلاء أن يوفّقوا بين العقلانية الحداثية التصميمية والإنشائية والمعمارية من جهة والحس التاريخي والثقافي من جهة أخرى. وقد أدى اقتران هذين المسعيين في أعمالهم إلى صعود قضية الهوية إلى رأس اهتماماتهم التشكيلية في نفس الوقت الذي كانوا فيه يشاركون غيرهم من معماريّي العالم في حركة الردة على المظاهر اللاتاريخية للحداثة مع محافظتهم على انتمائهم له. ولكنهم بأغلبيتهم قد اضطروا، كما الكثير غيرهم من جيل المثقفين الطليعيين، إلى مغادرة وطنهم الذي تعرّض لخضّات سياسية شديدة في السبعينيات والثمانينيات جعلت حياتهم في العراق وممارستهم لمهنتهم فيه صعبة. ومع ذلك فهُم جميعاً قد حملوا عراقهم معهم في الوجدان وفي الخيال المعماري، حتى عندما كانوا يصمّمون مشاريع في الخارج، غالباً في مدن الخليج.
أحد هؤلاء المعماريين، رفعة الجادرجي (1926 - 2020)، غادر عالمنا في لندن منذ أيام عن عمر يناهز الـ 94 عاماً بسبب جائحة كورونا المخاتلة والقاسية. فهذا الرجل - الذي ترك العراق عام 1983 ولم يعد إليه إلا لزيارات قصيرة خيبت أمله إلى درجة أنه رفض العودة إليه بشكل نهائي حتى بعد سقوط نظام صدام حسين - أمضى سنوات غربته كلها وهو ينظّر لمفهوم العمارة تاريخياً وإنسانياً وحتى فلسفياً في عدة كتب أرادها بمثابة رسائل حب مفعمة بحميمية عميقة لعراق عابر للزمن أو لعراق منتج للزمن الإنساني.
فغالبية كتبه؛ من "شارع طه إلى هامرسميث" (1985) إلى "في سببية وجدلية العمارة" (2006)، مروراً بـ"الأخيضر والقصر البلوري" (1991) و"حوار في بنيوية الفن والعمارة" (1995) و"مقام الجلوس في بيت عارف آغا" (2001)، على الرغم من تنوّع مواضيعها لا يمكن تخيّلها فقط ككتب مجرّدة عن تاريخ العمارة عبر التاريخ الإنساني الطويل كله، بل هي مجبولة، بدرجات مختلفة وضمن أزمنة تراوح بين فترات محددة من حياة رفعة الجادرجي إلى تاريخ الوجود الإنساني كلّه، بأرض العراق وناس العراق وعمارة العراق منذ أن كان مهداً للحضارة الإنسانية أو محطة مضيئة لتطوّرها إلى أن أصبح متلقياً لها ومنفعلاً بها. ورفعة نفسه موجود في كتبه كلّها أولاً كمعمار مفكّر، ولكن أيضاً كإنسان متوحّد بالتاريخ الإنساني كله يستقي من ذلك التوحد معنىً لتطوّر المجتمعات والثقافات من خلال خربشات الناس على الأرض وفوقها على مر الزمن، أي العمارة نفسها.
قبل مغادرته العراق، كان التصميم هو وسيلة التعبير الأولى لرفعة الجادرجي، وكان التصوير الفوتوغرافي أداته الأساسية للوصول إلى لبّ التصميم المعماري عبر توثيق عمارة وحرف العراق وعاداته وطقوسه الدينية. ولكنه بعد مغادرته العراق للاستقرار ما بين لبنان وبريطانيا، هجر التصميم وإن استمر بالتصوير، وأنجز مجموعة كبيرة من الصور بحسِّ الأنثروبولوجي الذي لا شكّ لدي في أنه أراد أن يكونه وأنه تمثّله من خلال كون زوجته بلقيس شرارة أنثروبولوجية.
ولا بد أنه كان لوالده كامل، الصحافي والسياسي المشهور ومؤسس "الحزب الوطني الديمقراطي"، دور مهم في شبه امتهان رفعة للتصوير الأنثروبولوجي. فكامل هو أول عراقي وثّق للحياة اليومية العادية في العراق بحنان وتفهم وتعاطف ربما كان فيه شيء من الاكتشاف والانبهار من قبل ابن الطبقة المرفّهة هذا في بلد كان يعجّ بالفقر والعوز والتقاليد البالية. وقد نشر رفعة من ضمن ما نشر صور أبيه في منشورين مختلفين مع تعليقات ضافية أضاف إليها كتاباً صغيراً أسماه "صورة أب" (1985)، ولكنه لم ينشر صوره هو بطريقة منهجية قط، ربما لأنه اعتبرها مواد للدراسة في سبيل التصميم المعماري الذي كان هاجسه الأهم طوال إقامته في العراق وكان أيضاً سبب سجنه وسبب هجره العراق في النهاية.
فالجادرجي، الذي درس العمارة (بالصدفة كما يقول في مقابلة رائقة مع ريكاردو كرم موجودة على موقع يوتيوب) في مدرسة هامرسميث للفنون والعمارة بين عامي 1946 و1952، عاد للعراق ليؤسس مكتب الاستشاري العراقي ولكي يبدأ بالعمل كمعمار في المجالين الخاص والعام، وقد بدأ منذ الخمسينيات بتنفيذ العديد من المباني المهمة في بغداد وغيرها من مدن العراق لكي يصبح في الستينيات من المعماريين الأوائل الذين تُعهد إليهم المشاريع العامة الكبرى.
خلال تلك الفترة تقلّب في المناصب الحكومية المؤثرة في العمارة والعمران في وزارتي الأوقاف والإسكان. ولكن لحظة التألق الأولى جاءت من خلال احتكاكه بعبد الكريم قاسم زعيم ثورة/انقلاب 1958 ضد النظام الملكي الذي طلب إليه تصميم نصب تذكارية في بغداد أنجز منها اثنان يمثلان بحد ذاتهما قمّتين في العمارة العراقية الحديثة. الأول هو "نصب الحرية" الذي شبّهه الجادرجي نفسه باليافطة الحجرية التي تنافس في توازنها اليافطات التي كانت تملأ فراغ بغداد خلال التظاهرات التي عمت البلاد قبل انقلاب قاسم، والذي قام بوضع منحوتاته الجدارية الرائعة الفنان العراقي الأشهر جواد سليم الذي كان صديقاً مقرّباً للجادرجي.
أما النصب الثاني، وفي الحقيقة كان أول مشروع معماري يكشف هوية رفعة الجادرجي المعمارية برأيي، فهو "نصب الجندي المجهول" في "ساحة الفردوس" الذي هدمه صدام حسين عام 1982 ليقيم مكانه تمثالاً هائلاً وبشعاً لنفسه أزاله الأميركان غداة غزوهم العراق في نيسان/ إبريل من عام 2003. نصب الجادرجي اختزل في تكوينه وشكله المعقود الأهليلجي والمقوّس الجوانب، عصارة العمارة الرافدية الأولى التي أنشأها السومريون في سواد جنوب العراق في الألفية الثالثة قبل الميلاد والتي ما زالت إلى اليوم أسلوب بناء أساسي بالقصب والسعف يعتمد على قدرة هذه المادة الرائعة على الانحناء وتشكيل القبوات المقوسة المنتشرة في أهوار العراق والتي تعرف أحياناً بالصريفة. ثم أتى الجادرجي لكي يطوّر من هذا التشكيل رمزاً مجرّداً للعراق، أرض الأهوار وملتقى النهرين ومنبع الحضارة ومصدر العمارة المقبّبة والمقوَّسة من الآجر الطيني المشوي أو النيئ. وما نصبه ليس إلا بداية واعدة لما سيصبحه الجادرجي بعد عقود كمنظّر للاستمرار الحضاري الإنساني من خلال التنوّع المعماري القائم على الانتماء للمكان والإلمام بالخواص التشكيلية والإنشائية للمادة المحلية.
هذه البداية ستتطوّر إلى تشكيلات اختزالية للأقواس ستطعِّم واجهات مباني رفعة الجادرجي الحكومية في الستينيات والسبعينيات وتضفي عليها نكهة حداثية-محلية، المصطلح الذي اشتقه الجادرجي نفسه للتعبير عن عمارته الحداثية التي تريد أن تتجذّر في أرضها، فأبنية مثل مبنى "اتحاد الصناعات الوطنية" (1966) ومبنى "المجمع العلمي العراقي" (نفس السنة) ومبنى "شركة التأمين الوطنية" في الموصل (نفس السنة أيضاً والذي استخدمته داعش خلال احتلالها الموصل لإلقاء المثليين من أعلاه ودمّر في الأعمال الحربية اللاحقة لطرد داعش) ومصرف الرافدين (1969) وغيرها ما هي إلا تقاسيم على لحن القوس المزدوج الذي أصبح في الآن نفسه علامة الجادرجي المميزة وعنصره التشكيلي الأول الذي منه يستخلص إيقاع واجهة المبنى ومعناه.
هناك في مباني الجادرجي كلها رغبة جامحة بالتسامي من خلال الخطوط التي تحزّز واجهاتها وتضفي عليها توازنها الذي استمده الجادرجي من دراساته الفوتوغرافية لمكوّنات واجهات الشارع البغدادي وتنويعاتها الفراغية. وهناك في مبانيه أيضاً انتماء واضح للتاريخ وللمكان ولكن أيضاً حساسية تشكيلية لا يمكن فهمها إلا من خلال معايير الحداثة وذائقتها الجمالية. وهنا فعلاً بيت القصيد بالنسبة للمعماري رفعة الجادرجي، الذي عاش حياته ومات حداثياً ملتزماً على كل الأصعدة من العمارة إلى الاعتقاد الديني والحياة الشخصية والعلاقات الإنسانية وطبّق على تعامله معها كلها فلسفة شكاكة صارمة لم يحد عنها قط.
سُجن الجادرجي عام 1978 في عهد "البعث" بتهمة الخيانة العظمى لتحدّيه السلطة القائمة وغالباً لفرط كبريائه، على الرغم من كونه لم يكن سياسياً أبداً إلا من وجهة نظر فلسفية شاملة. وقد حُكم عليه بالسجن المؤبد ولكن أطلق سراحه بعد أقل من سنتين عندما أراد الطاغية الصاعدة أنجمُه، صدام حسين، أن يجمّل وجه بغداد وعيّن لذلك رفعة الجادرجي مستشاراً لأمانة العاصمة عام 1980. يُذكّر ذلك بقصة أحمد بن طولون، حاكم مصر الشهير الذي عندما أراد بناء جامِعه وفق طراز معيّن لم يجد من يبني له ذلك سوى معمار، عراقي أيضاً، كان مسجوناً لديه فأخلى سبيله وعهد إليه بالعمل.
هكذا الطغاة عندما يحتاجون لمن يحقق أحلامهم العمرانية، فقد أوكل صدام حسين للجادرجي تنظيم مسابقة معمارية عالمية لبناء جامع للدولة كبير استعداداً لـ"مؤتمر دول عدم الانحياز" المقرر عقده في بغداد عام 1983. لم يُبن الجامع قط، ولم يُعقد المؤتمر أصلاً، ولكن المسابقة والمشاريع التي شاركتُ بها وشروطها التي وضعها الجادرجي دخلت حيّز العمارة المعرفي كنماذج حداثية لتصميم المساجد وهي ما زالت تدرّس إلى اليوم.
غادر الجادرجي العراق بعد وقت قليل من انهيار المسابقة والمؤتمر في خضم الحرب المدمّرة بين العراق وإيران. ذهب إلى الولايات المتحدة الأميركية كباحث زائر في برنامج الآغا خان للعمارة الإسلامية في كل من هارفرد وإم. آى. تي. وتقلّد مناصب بحثية عديدة في كلتا الجامعتين في برامج ثقافية وفلسفية ومعمارية حتى عام 1992 حين عاد إلى لبنان أولاً حيث أطلق "مؤسسة الجادرجي" التي تحتفي بنوابغ العمارة الناشئين، ثم اتجه إلى لندن في الأخير.
في الأثناء حصل على جائزة الرئيس لإنجازاته من جائزة الآغا خان عام 1986 تبعتها جوائز عدة اعترافاً بمنتجه المعماري والفكري على حين انسحب هو وحبيبة العمر، بلقيس، من الحياة العامة ليتفرّغا للكتابة والقراءة والتفكر وسماع الموسيقى مع إطلالات قليلة ومتباعدة إلى أن وافته المنية في زمن الموت الاعتباطي هذا الذي نعيشه.
ترك رفعة الجادرجي خلفه إرثاً ضخماً مكتوباً ومصوّراً لا بد أن يتناوله الباحثون المعنيون بسيرة العمارة في العراق وتاريخ العمارة العالمية بالدراسة والتمحيص (منح الجادرجي مكتبة الآغا خان في إم. آى. تي أرشيفه كاملاً وهو متاح اليوم لكل الباحثين)، وترك أيضاً بعض مبان من روائعه في بغداد وإن كان العديد منها قد هدم خلال حياته، مما دفعه بنظرة المؤرخ الشاملة ونفس الفيلسوف الخلدوني الذي كانه إلى أن يعزو ذلك إلى هيمنة العقلية البدوية في العراق التي لا ترى في المباني أكثر من تأدية لوظيفة تنتهي بنهايتها. ولكن تأثيره على الفكر المعماري لن ينتهي لا بنهاية حياته ولا بزوال مبانيه، فهو قد نجح في غزْله ضمن المنظومة العالمية للعمارة كما نظّر خلال حياته كلها.
* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا