إلى كمال بُلّاطه.. أفكّر في زيارتك

28 مايو 2014
تفصيل من لوحة لكمال بُلاطه
+ الخط -

عزيزي كمال،

عذراً، سمحت لنفسي بأن أرفع التكليف، فأنت لست غريباً عني.

أنا نحات من سوريا، أدرس تاريخ الفن وأعيش بشكل مؤقت في مدينة ليون في فرنسا. أخاف من كلمة مؤقت.

أنت أيضاً تعيش مؤقتاً، من زمان، في جنوب فرنسا. لعل الشمس هناك تشبه شمسنا أكثر! لطالما كانت قِبلة الفنانين الباحثين عن الضوء. هل تأثرت أعمالك بطبيعة المكان الجديد؟

وجدت، وأنا أبحث عنك، عملاً قديماً اسمه "تحية للعلم 2". عندما أغمض عيني وأتمعن فيه، أرى المساحات البيضاء على شكل أسهم مبعثرة، تائهة، تبحث في كل الاتجاهات. وعندما أفتح عيني أجدها تكوّن مع المثلثات الخضر والسود، الممتدة منها، متتالية من الزوايا الحادة كأنها سلسلة من قمم الجبال المتجاورة. التحديق مطولاً في هذا الرسم يجعلني أكتشف علاقات مختلفة بين هذه الوحدات الهندسية. تعاملت معها كلعبة بصرية دون أن أنتبه، أول الأمر، أنها ألوان العلم الفلسطيني. أعتذر إن أسأت التعامل معها.

في مقهى الرواق في دمشق، والذي كان يرتاده الفنانون عموماً، كان هناك ركن مخصص لمصطفى الحلاج. كنت أراقبه عن بعد في البداية، اعتقدت أنه شاعر متصوف وان الحلاج لقبه، ثم عرفت لاحقا أنه فنان فلسطيني واكتشفت أعماله قبل أن يتوفى بتلك الحادثة المأساوية في مرسمه "صالة ناجي العلي". وبعد تخرجي من قسم النحت تعرّفت إلى النحات الفلسطيني زكي سلام (لجأ مع عائلته مؤخراً الى الجزائر) وشاهدت أعماله المرتبطة بالقضية الفلسطينة. ذكرت لك هذين الاسمين لأنهما كانا مدخلي للتعرف إلى الفن الفلسطيني.

أفكّر الآن بأنك من القلة المغامرين في بلادنا، ممن كتبوا في تاريخ الفن. المسألة على أهميتها، لم تلق الكثير من مبادرات المؤرخين المتخصصين، ربما لصعوبتها وتطلبها سنوات من الجهد والبحث والتوثيق، لم تبخل بها أنت على "الفن الفلسطيني". أريد أن أقول لك إن التوثيق لأي فن عربي منذ 1850 وحتى العصر الحديث، عمل حظي به الفن التشكيلي الفلسطيني بفضلك. ولم يتكرر بشكل مشابه في التجارب العربية الأخرى. إنه عمل مكتوب بحب.

"بلقيس 4"، أكريليك على قماش، 120×328 سم  (كمال بلاطه، 2013)


قلت لك إني أعرفك، عرفتُ مثلاً أنك في حرب حزيران 1967 كنت في بيروت تعرض هناك ومنعت بعد انتهاء الحرب من العودة. يبدو لي أن السير الذاتية للفنانين المنفيين وما ينسجه الخيال من حولها، تتحول إلى أسطورة، يضيف إليها المتلقي الكثير مما يحمل من صور نمطية.

أنا مثلاً، توقعت وأنا أفتش في أعمالك أن أرى الكثير عن الفدائيين أو تمثيلات للشهداء، أو بورتريهات بملامح قوية لفلاحات فلسطينيات، أو لأطفال من المخيم. لقد كبرت وهذه الصورة عن فلسطين معي. في المدرسة كانت كلمات الشهيد، اللجوء، المخيم والشتات هي مفردات فلسطينة فقط. لم اتوقع يوما أن تكون المأساة أكبر من حدود الخريطة. الخريطة المعلقة كغرض للزينة في الأطواق أو على جدران بيوت الاصدقاء لتذكرهم وتذكرنا بالنكبة.

في يوم النكبة كان عمرك ستة أعوام إذن، هل كنت تدرك ما كان يحدث؟ لطالما تصورتها قديمة جداً، تنتمي إلى زمن بعيد، ربما لأنها كانت تعرض على شاشة التلفزيون بالأبيض والأسود. أما النكسة فلا شكل واضح لها بالنسبة لي، كانت تظهر أحياناً على هيئة رجل مكتئب يعاقر الكحول الرخيصة، ربما هذا انطباعي عمّا يسمى "جيل النكسة". أنت كيف تراها الآن؟

" نور على نور" (كمال بلاطه، 1983)


الآن أعرف بشكل أعمق معنى النكبة واللاجىء والشهيد والمخيم. كما أعرف تماماً ماذا يعني أن تعيش في المنفى. أفهم معنى "العودة".. إنها في تفاصيل الحياة اليومية وليست مؤقتة.

أفكر وأنا في حياتي المؤقتة، وسط فرنسا، أن أزوك وأنت في حياتك المؤقتة في جنوبها. لدينا الكثير من الأمور المشتركة، وأود لو نلتقي ونتحدث مطولاً...


* فنان تشكيلي سوري مقيم في فرنسا

دلالات
المساهمون