بعد كلّ مواجهة في المشهد الكلاسيكي للاستعمار، يضبط العساكرُ إيقاع اقتحامهم المنازل بأعقاب البنادق والبساطير، بينما ينشغل المثقفون بإخفاء أدلّة اشتباكهم مع الواقع، خشية الاعتقال أو حتّى الإعدام.
اللافت في ما يشغل المثقفين المهمومين بالتحرّر في فلسطين، خلال وبعد فترة المواجهة (حتى "اتفاقية أوسلو")، ليس في إخفاء الأسلحة، إنما بدفن الكتب. ستكون محظوظاً لو شاهدت أحد أولئك "المهمومين" يوازن صندوقاً على كتفه، وفي يده الأخرى مجرفة، يتسلّل بين الأزقة وأطراف الشوارع بحثاً عن نقطة أرض يختفي بها، عشر دقائق، ثم يعود فارغ الكتف، تَرِبَ الملابس.
وعلى اختلاف مواضيع الكتب (السياسية والثقافية) فإنها بلحظة واحدة، تغدو على مَن يحوزها شبهةً تُصادَر منه، أو يُعتقَل على إثرها، ومع تقلّب الرمزية التي تشكّلها الكتب في هذه الحالة، تارةً تجاور في دفنها نقطةً قريبةً من سلاح مدفون، وتارةً تجاور قبراً، ولكنها في كِلا الحالتين، تُشكّل ظرفاً لالتقاء نظريات التحرّر، والأدوات، مع الغاية (الأرض).
ضمن الحصار الثقافي الذي عاناه الشعب الفلسطيني، يستذكر الصحافي والروائي أسامة العيسة إحدى اقتحامات الاحتلال لمنزله في مخيم الدهيشة جنوب بيت لحم (1982) فترة وجوده في المدرسة، حينها صادر الضابط المسؤول رواية "عرس بغل" للروائي الجزائري الطاهر وطّار، تاركاً له بلاغاً لمراجعة مقرّ "الحكم العسكري" في بيت لحم، ليتمّ احتجازه بشكل يومي طيلة فترة النهار.
يقول العيسة لـ "العربي الجديد" إن الضابط "الإسرائيلي" لم يدرك أن الرواية التي صادرها تدور في بيت دعارة، ولكنها بالنسبة إليه هي كتاب، وأيّ كتاب - من وجهة نظر الاحتلال - ربما يشكّل خطراً على أمنهم. ومن حينها ظلّ العيسة لفترة طويلة يحتفظ بكتبه، بدفنها أسفل شجرة أمام المنزل.
ولا يغيب عن ذهن الكاتب وليد الهودلي لدى لقائنا به في رام الله، حين دقّ جنود الاحتلال باب منزله تمهيداً لاقتحامه واعتقاله بداية التسعينيات، بينما هو منشغل مع صوت الضرب على الباب بإخفاء المجلّات والنشرات التوعوية التي تعذّر عليه دفنها مع الكتب، فكانت سبباً للإدانة في المحاكم العسكرية الاحتلالية.
ويروي الهودلي قصته مع رواية "ستائر العتمة" التي كتبها من داخل مُعتقل "عسقلان" عام 1999، وهرّبها إلى أصدقاءٍ من القدس فقاموا بدفنها، إلى أن خرج من الأسر واستعادها لتطبع عام 2003. في حين أن رواية أخرى كُتِبَت في مُعتَقل "هدريم" وتم إخفاؤها فضاعت، ولم يجدها حتى اليوم.
كذلك الأمر، لم يختلف كثيراً مع الذين نشطوا في العمل التنظيمي، مثل مصطفى جرادات من جنين، الذي نشِط في العمل القيادي في صفوف الشبيبة الطلابية في "جامعة النجاح" فترة الثمانينيات، وكان أحد الطلبة الذين اعتقلوا وبحوزتهم مئات الكتب والمجلات الثقافية.
يذكر جرادات متألّماً، في حديثه لـ "العربي الجديد"، أنه دفن كتبه بيديه، مثل: "حول التناقض والممارسة" لمنير شفيق، و"فلسطيني بلا هوية" للشهيد صلاح خلف، وغيرها الكثير من الكتب والصحف التي تُعنى بالسياسة والتنظيمات.
في غزة، لم تختلف سياسة الاحتلال تجاه الكتب، فقد كان أقلّ ما يسببه الكتاب لحائزه؛ تشخيصَ انتمائه وتوجّهاته، و"دليلاً" يُحقّق عليه معه في السجون. ومن تجربة عضو المكتب السياسي لـ"حزب الشعب" نافذ غنيم، فإن الاحتلال كان يعتبر كل شيء يتحدّث عن غير المألوف في الحياة العادية ممنوعاً، فلم يكن هناك قانون يحدّد ماهية الممنوع أو المسموح. وكان يخضع ذلك فقط لتقدير رجل الأمن "الإسرائيلي".
وفي هذه الأجواء، دفَن غنيم العديد من البيانات السياسية والكتب، خاصةّ التي تتحدّث عن القضية الفلسطينية أو برنامج الحزب السياسي، وكتب التثقيف الفكري، مثل كتب لينين، وماركس، والأدب الثوري عامة.
يتفق أصحاب تجارب دفن الكتب، في حديثهم إلى "العربي الجديد"، على دور الأرض الذي شكّلته في ذهن المثقفين والنشطاء كأكثر الأماكن حفظاً للسر والأمان، فيقول الهودلي: "اعتمدنا الأرض لأنها مكان أمين ومصدر ثقة، لأنها جزء من أرواحنا المُعلقة بها، وفيها تدفن الأسرار، والشهداء، والصالحون".
برغم ما وفرته الأرض من حماية للأرشيف الثقافي والحزبي، إلا أن شأن الكتاب المدفون في نهاية الأمر شأن السلاح، الذي إذا طالت عليه مدّة الدفن فإنه يصدأ ويتلف، وهذا ما حصل مع نافذ غنيم من غزة، حين تعرّضت العديد من المطبوعات التي دُفنت إلى التلف بسبب الرطوبة الشديدة، ويصف "كنّا نجد الورق قد كساه العفن، وأن الخطوط قد بهتت، وأحيانا نجد الورق ذاته قد ضعفت متانته... وهناك وثائق تكمن أهميتها في تاريخ إصدارها، بمعنى أنها الأصل".
إلى جانب الدفن، حرِِص الإنسان الفلسطيني على الكتاب كقيمة رمزية بطرق مختلفة، منها قصة خليل إبراهيم الذي هرّب مجموعة من الكتب التي تُعنى بالفكر الإسلامي، قُبيل الاجتياح الإسرائيلي 2002، من مسكنه البعيد إلى منزل شقيقه في نابلس.
لم تقتصر سياسة الاحتلال بمحاربة الكتب الثقافية على البحث عنها، بل تحظر دخول كتب من دول، مثل: (لبنان، وسورية، والعراق، وإيران)، إلى المكتبات المحلية، مستندة إلى قانون "التجارة مع العدوّ" الذي سُنّ فترة الاستعمار البريطاني لفلسطين عام 1939.
وحصل أن أتلفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي قبل عام، مجموعة من الكتب في طريقها إلى إحدى مكتبات بيت لحم، بسبب ورود اسم دور نشر لبنانية على أغلفة الكتب. صاحبة المكتبة ترفض ذكر اسمها أو اسم مكتبتها خشية تضييقات الاحتلال عليها، خاصة أنها بعد توكيلها محامياً لتنتزع حقها بإدخال بعض الكتب التي لا تمسّ الشأن الأمني، تضاعفت مضايقات الاحتلال بفتْح صناديق الكتب، ومصادرة بعض الكتب الصادرة في الأردن، وأصبح التدقيق على العناوين والفهارس. وبشكلٍ مشابه، طال الحظر كتباً كانت في طريقها لمعرض كتاب محلّي في حيفا (معرض "فتوش")، خلال شهر أيلول/ سبتمبر من العام الماضي.
بالعودة إلى النكبة عام 1948، لم يدفن الفلسطينيون كتبهم، فلم يخطر على بالهم أن "إسرائيل" بعد قتْل وتهجير السكان الأصليين، جهّزت وحدات للانقضاض على معاهد العلم والمراكز الثقافية، والمكتبات الخاصة والأوراق الشخصية لكبار المثقفين والكتاب والسياسيين، وأرشيف معظم الأحزاب السياسية واللجان القومية، والصحف، وهو ما استفاضت به دراسة في مجلة الدراسات الفلسطينية، بعنوان "لماذا لا نستطيع كتابة تاريخنا المعاصر من دون استخدام التاريخ الشفوي؟" لصالح عبد الجواد.
يُلقي عبد الجواد الضوء من خلال شهادة الكاتب محمد البطراوي، على تنبّه المؤسسة الثقافية والعسكرية الصهيونية، إلى تجميع وفهرسة مختلف أنواع الكتب والوثائق الفلسطينية، التي توفّر مجالاً أفضل لدراسة ومعرفة المجتمع الفلسطيني، وبالتالي محاربته وإضعافه.
ومن النصوص التي برز فيها تأثّر المثقفين الفلسطينيين من ضياع مكتباتهم على أيدي الاحتلال، ما جاء في يوميات خليل السكاكيني (1878-1953)، الذي يحمل عنوان "كذا أنا يا دنيا"، الذي طُبع بعد عامين من وفاته، وهو يبكي ضياع مكتبته بعد النكبة:
"الوداع يا مكتبتي! يا دار الحكمة، يا رواق الفلسفة، يا معهد العلم، يا ندوة الأدب، كم أحييت فيك الليالي الطوال أقرأ وأكتب، والليل ساج والناس نيام... الوداع يا كتبي النفيسة القيمة المختارة. أقول كتبي وأنا أعني أولاً أني لم أرثها عن الآباء والأجداد.. وثانياً أني لم أستعرها من الناس، ولكنها من إنشاء هذا العاجز... الوداع يا كتبي! لست أدري ما حلّ بك بعد رحيلنا، انتهيتِ، أحُرقتِ، أنُقلتِ معزّزةً مكرّمة إلى مكتبة عامة أو خاصة، أصرتِ إلى دكاكين البصل يُلفّ بأوراقك البصل؟! الوداع يا كتبي! يعز علي أن أُحرم منك وأنا على أهبّة الرحيل من هذه الدنيا. وهل يستطيع من كان مثلي... أن ينشئ مكتبة جديدة؟".
لا تأتي "مجزرة النهب" التي مارسها الاحتلال بحقّ الإرث الثقافي الفلسطيني، منعزلةً عن ذهنية التتار بقيادة هولاكو الذين أغرقوا مكتبات العراق في نهر دِجلة حتى صار أسوَدَ إثر مداد الكتب، ولا محرقة الكتب التي قام بها الإمبراطور الصيني شي هوانغ تي، وإن كان الاحتلال الإسرائيلي يقوم بالأمر بأدوات حديثة متقدمة وأقل لفتاً للانتباه.
مع التقدّم التكنولوجي، أصبح بالإمكان الوصول إلى عديد الكتب من خلال الإنترنت، ولكن حتى في العوالم الافتراضية، كمواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإخبارية والثقافية، لم تسلم الرواية الفلسطينية من الحجب وتقليص عدد الوصول إلى الجمهور، من خلال اتفاق الاحتلال مع شركات أميركية، لبرمجة خوارزميات الشبكة لتتتبّع المحتوى الفلسطيني.
رغم جدوى عمليات دفن الكتب التي شغلت أصحابها في فترات المواجهة، إلا أن إعادة تشكيل الهوية، وتكوين صورة غير مشوهّة عن الذات، وإعادة اتصالها بامتدادها الثقافي التاريخي، مرهونة بوجود قُرّاء، فالكتب ميّتة –تحت الأرض وفوقها- والقارئ وحده يحييها.