الفاضل بن عاشور.. متجوّل في باحات الفكر الإسلامي

15 أكتوبر 2018
(الفاضل بن عاشور (يسار) مع طه حسين، ووالده)
+ الخط -

ربّما لا توجَد في تاريخ الفكر العربي الحديث حالةٌ شبيهة بتلك التي عاشها الفاضل بن عاشور (1909 - 1970)، الذي ظلَّ حياته كاملةً يمتَح من مَعين أبيه الشيخ الطاهر بن عاشور (1879 - 1973) بعد أن هيمَن كليّةً على مشهد التأليف في حقل الإسلاميات. ولم يمنع العيشُ في ظلّ والدٍ استثنائيِّ المعارف الولدَ من الظهور وحتى من التميُّز.

اختطَّ الابن لنفسه طريقاً جمع فيه بين المتناقضات وصالَح بين المفارقات. ومن ذلك مثلاً أنه ترأَس لِسنتَين "الاتحاد العام التونسي للشغل" الذي كان من نخبة مؤسِّسيه. وفي الآن ذاته، تولّى منصب الإفتاء المالكي سنة 1953.

كما ساهم في منتديات المستشرقين في فرنسا (1948) وتركيا (1951)، وتابع أعمالهم المشيَّدة على الحسّ النقدي، وكانت وقتها في ذروة الإجادة والشمول، مع أنه كان عضواً في "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة، حريصاً على صفاء الضاد، ومُنافحاً عن أصالتها.

عُيِّن عميداً للكلية الزيتونية، ثمّ مفتياً للجمهورية سنة 1961. وموازاةً مع ذلك، واصلَ تشجيعه الجمعيات الثقافية المهتمّة بالفلسفة والعلوم. ولم تمنعه كثرة شواغله الرسمية والعلمية من الدفاع عن فلسطين، حيث زار القدس في نهاية الأربعينيات، وراح ينافح بقلمه ومحاضراته عن القضية التي ألّف فيها "فلسطين الوطنُ القوميُّ للعرب".

ونظراً إلى تكوينه المزدوَج: تمكّنٌ من التراث واطّلاعٌ على حديث الدراسات، فقد توزّع إنتاجُه بين دائرتَين متكاملتين؛ فمن جهة أولى، ركّز جهوده للتأريخ لعصر النهضة، كما بشّر به وعاشه روّاده في تونس. كأنّما انطلق من شعور بالضيم، سببُه إغفال المؤرّخين المشارقة إسهام مفكّري "الغرب الإسلامي"، فَطفق يُظهر ما قدّمه هؤلاء من أفكار أصيلة لتحرير الوطن العربي من ربقة الاستعمار، وما اقترحوه من مسالك للتمدّن والإصلاح.

فكان من ثمار هذه المرافعة، كتابه "أركان النهضة الأدبية في تونس" (1960) وقبله "الحركة الأدبية والفكرية في تونس" (1956)، وفيهما أبان كيف طوّر أدباء تونس ومفكّروها لغة الضاد، وكيف خاضوا غمار التحديث تنظيراً وممارسةً. ولم تقتصر أعماله هذه على السرد المناقبي والتأريخ الجاف، بل ضمّنها نظراتٍ ثاقبة عن ارتباط الفكر بسياق حضارة الإسلام بعد اصطدامها بآلة الغرب، وما نتج عن ذلك الاصطدام من تحوّلات عميقة.

ومن جهة ثانية، عاد الفاضل بن عاشور إلى المتن الإسلامي القديم، يُراجع نصوصه ويحلّل مراحل نشأته فَتطوُّره، وتصدّى إلى أمّهات أبوابه: الفقه والتفسير. فَخصّص للأول كتاباً جامعاً حول "المصطلح الفقهي في المذهب المالكي"، بحثَ فيه، عبر منهج تأريخي، كيفيّة دخول مذهب مالك بن أنس إلى منطقة شمال أفريقيا والأندلس، والمعروفة حينها بالغرب الإسلامي، وكيف انتشرت كتبُ علمائه من بنغازي إلى قرطبة، بفضل "مدوّنة سحنون" و"رسالة القيرواني".

كما وقف في الكتاب على المصطلح الفقهي الخاص بهذه المدرسة، وهو مبحث واقعٌ بين المَعْجَمة والفقه، يُعنى بارتباط مفردات العلم بالسياق الأصولي وبالواقع الثقافي الذي نشأ فيه المذهب ونَما.

وعلى صعيد آخر، تصدَّى مفتي تونس إلى تاريخ التفسير القرآني، ولا عجبَ في ذلك، فوالده من أبرز شُرّاح القرآن في عصرنا. وكأنه استشعر عدمَ كفاية المدوّنة التفسيرية التقليدية في مواكبة ما طرأ على مجتمعات الإسلام بعد أن هزَّتها حربان عالميّتان تلاشت خلالهما سلطنَة الخلافة، فتوجَّبت تصفية الحساب مع الحقبة الوسطى والقديمة بسبب ما اعتور مدوّنةَ التفسير من أعراض الوهن، تلك التي شاعت تكراراً وتقليداً، بعد أن ضَمر التحقيق واحتدمت الخلافات الكلامية وكثرت التأويلات المتعسّفة.

وهكذا، عمل على غربلة التفسير وعرضه بشكل تطوّري بغيةَ الوقوف على ملامح القوّة والضعف فيه للولوج إلى الحداثة تناغماً مع "نهضة الإسلام" التي أرَّخ لها، وكان من أركانها. ففي كتاب "التفسير ورجاله" الذي صدر سنة 1970، وهو من أهم آثاره، عاد ابن عاشور إلى عيون كتب التفسير، التي عليها المُعوَّل في هذا الفن، فتتبّع أبرز محطّاتها. وبوّبَ كتابَه حسب أشهر المفسّرين، مُحلّلاً أعمالَهم الضخمة؛ مثل: الطبري، والزمخشري، وابن عطية، والبيضاوي، وابن عرفة، والألوسي.

ولم يُهمِل في كتابه هذا الطورَ المعاصر، بل خصّص له فصلاً حول "نهضة الإسلام"؛ حيث وضع التفاسير المعاصِرة في سياق حركة الإصلاح الديني التي طاولت الفكر العربي بأسره. ولذلك، عكف في الفصول الأخيرة على "تفسير المنار" للشيخ محمد عبده ومريده رشيد رضا.

واللافت أنّ صاحب "ومضات فكر" لم يتوقّف عند كتابِ والده "التحرير والتنوير". ولا ندري إن كان ذلك يعود إلى عدم صدور المؤلَّف كاملاً وقتها، أم إلى تواضع العلماء وترفُّعهم عن الإشادة بالذات. وأخيراً، صاغ كتاب "أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي"، وهو بمثابة موسوعة ضمّت أشهر علماء الإسلام في المغرب وأبرزت مشاركتهم في سائر أصناف المعارف الدينية.

ظاهرُ هذا المسار الفكري أنّ الرجل يجول في باحات الفكر الإسلامي، قديمِه وحديثِه، مع التركيز على الشقّ المغاربي. والحقيقة أنَّ أعماله أقرب إلى الاستعادة التحليلية الشاملة لمكوّنات هذا الفكر سعياً لفهم الأسباب الثقافية والسياسية التي أنتجته وشكّلته.

فما أنجزه ابن عاشور هو إظهار لـ "تاريخية العقل الإسلامي"، ولكن من داخل منظومته الفكرية لا بالإسقاط عليها، حيث برهن على ارتباط هذا العقل بسياقه التاريخي وما واجهه من صراعات وتحوّلات، فكان نتاجه استجابةً لها. وقد استفاد، ولا شكّ، من مناهج المستشرقين الذين انصرفوا عن التمجيد وذِكر المناقب بغاية وضع الفكر الإسلامي، أكان تفسيراً أم فقهاً أم حكمةً، في إطار التطوُّر الزمني، مع التشديد على دور اللغة العربية في التعبير عنه ومصاحبته في أطوار انحطاطه وانبعاثه.

لئن استحضرنا اليوم ذكرى ولادة الفاضل بن عاشور فلقراءة سيرة هذا "المثقف" اللانمطي الذي تألق في الجمع بين المتباعدات ووَفَّق بين العمل التاريخي والتأثير في محيطه العربي- الإسلامي، وجله رازحٌ تحت نير الاستعمار، وبين التحقيقات العلمية المجردة، ليس فقط عبر التمكن من نصوص التراث، بل بالنّهل من أحدث ما توصلت إليه أبحاث الاستشراق الرصينة.

وهو جمعٌ لطيف قلّ من تناوله بالتحليل. وعلى عتباته، يفرض هذا السؤال نفسه بقوة: هل قامت دورُ النشر العربية، أكانت مشرقية أم مغاربية، بإعادة طبع موروث الفاضل بن عاشور بشكل علمي مُحقق؟ وهل فكرت مؤسسات الترجمة في نقله إلى لغات العالم الكبرى؟ والعَملان، وهما من الضَّرورات العاجلة، مما سيُسهم لا محالة في نشر معلومات هامة عن الفكر الإسلامي ويفتح في مجاهله مسالكَ نيرة.

المساهمون