الشك ليس حميداً دائماً

18 فبراير 2020
ياسر صافي/ سورية
+ الخط -

المقولة السائدة في الثقافة هي أنَّ الشكَّ أفضلُ من اليقين؛ فالشك يمثّل العقل في أفضل تجلّياته، بينما اليقين يعني الامتثال في أسوأ حالات ركوده. إذا كان الشك مطلوباً فللبحث عن الحقيقة، أمّا أن يكون لنفيها، فهو ما يحوّله إلى أداة للهدم، والاعتقاد بعبث الجهد للتوصّل حتى إلى الحقائق التي تمس مرتكبي جرائم قُبض عليهم فيها بالجرم المشهود، أسوةً بما يجب أخذه بالاعتبار في القضاء، بتفسير الشك لصالح المتهم، ما أنقذ كثيرين من الموت، ومنهم أبرياء فعلاً، بينما استفاد منه مجرمون فعلاً.

ظاهرة التشكيك باتت لها الأولوية خلال سنوات الربيع العربي، انتشرت لدى جميع الأطراف، ولا ننسى أن للزمن مفاعيل أحدها خلخلة الحقائق تمهيداً لتغييبها. عملت عليها الأنظمة بكامل طاقتها، وكذلك المعارضة، وكأنّه من الطبيعي قلب الحقائق، فالعدو دائماً قابل للتشكيك في أعماله ونواياه.

الحقيقة أولى ضحايا الحرب. ليس في هذا القول المتداول تزيد، نلاحظه في الحروب عامة، فكل طرف يسعى إلى المبالغة في مكاسبه والتقليل من خسائره، بترويج أخبار عن ارتفاع خسائر العدو، واندحاره إن لم يكن هزيمته، وأحياناً رفع أرقام ضحاياه لكسب تعاطف المجتمع الدولي، واختلاق مؤامرات لإقناع الشعب بأنه يتعرّض لهجمة خارجية.

تُفرز الحروب صراعات، تكسر جميع الخطوط الحمراء، أحدها الأكثر اعتماداً سياسة الأرض المحروقة، فلا تبقي أخضر ولا يابساً، أقرب إلى أنها حرب إبادة، تُستعمل فيها أسلحة محرّمة دولياً، وقد كان في ما دُعي "الضربة الكيميائية" التي قام بها النظام السوري على المدنيّين، مثال فريد، جرى توثيقه من منظّمات دولية، أصبح سابقة في هذا القرن، ألزم حينها الأميركان بالتدخّل، ثم امتنعوا بعدما عقد الروس صفقة معهم بتسليم السلاح الكيماوي السوري. وهكذا استراح الأميركان من التزاماتهم نحو المجتمع الدولي، ورغم أن العملية تكرّرت عدّة مرات على نطاق أضيق، لم يعد لها من ردّ فعل يوازي الضربة الأولى، فالعالم مع الوقت اعتاد على حرب لا ضوابط، أو موانع لها، كل شيء مباح فيها، قتل المدنيّين وتهجيرهم، البراميل المتفجّرة وقصف المستشفيات.

مع اقتراب الحرب من الانتهاء، وبداية عمليات تأهيل النظام، طاول التشكيك قصة الكيماوي، ولم يكن الهدف الموالين الذين يصدقون أي شيء، طالما أنهم مستسلمون تماماً لدعايات القنوات المؤيّدة والمحلّلين الاستراتيجيين والببغاوات بأنواعهم، فالحقيقة بالنسبة إليهم ليست متوخّاة بل ما يريدون أو ما يرغبون في تصديقه.

الهدف هو التشكيك في الرواية الموثوقة، وأن تصبح جريمة الكيماوي إحدى الروايات المتداولة، أي مثلما هي قابلة للتصديق، قابلة أيضاً للتكذيب. عدا أن التشكيك يشكّل عامل إغواء لدى الكثيرين، هؤلاء الذين يستهويهم عدم الوثوق في أي حقيقة، والأفضل، أن لا حقيقة... وكأنه ليس للعقل القدرة على التمييز بين الشك الصحيح الذي يؤدّي إلى الحقيقة، والشك الباطل الذي يؤدّي الى تمييعها، وربما إلى التعتيم عليها وإخفائها.

تُنتج هذه الظاهرة عقلاً أسيراً للشك، ولمجرّد الشك. ما يخلق شعوراً بعدم إمكانية معرفة ما إذا وقعت هذه الجريمة أو لم تقع، أو من هو المسؤول؟ وقد نستريح إلى القول إنّ الحقيقة ماتت منذ زمن طويل في هذه الحرب.

وهكذا تضيع الحقيقة بين أكوام الأكاذيب، ما دام الشك الذي يصنع الحقائق، يصنع أيضاً نقيضها. لكنّنا نُخطئ إذا اعتقدنا أنّ الحقيقة ماتت. إنّ ما حصل لها أشد من الموت، فإذا ماتت بوسعنا إحياؤها، لكن في التشكيك بها، يصعب تصديقها أو نفيها، وما يحدث هو اليأس منها. طالما الشك الحميد، والشك الوبيل، كلاهما يدّعي الحقيقة.
لكن ماذا عن الضحايا، وماذا أيضاً عن المجرمين؟

المساهمون