سمير رافع.. فنان السريالية الشعبية

23 سبتمبر 2019
(من "ذئاب" سمير رافع)
+ الخط -

عند الحديث عن حياة وفن التشكيلي المصري سمير رافع (1926 - 2004)، فإن المجهول والمفقود منها يبدو أكثر من المعروف والموجود، ولولا وثيقتان أساسيتان عن السريالي الرائد، ابن حي السكاكيني القاهري، لغاب عنّا الكثير ممّا يتعلق بتفاصيل ومنعطفات سيرته؛ وهاتان الوثيقتان هي مراسلاته لأخيه سامي وشهادة صديقه كامل زهيري عن حياته، وهما المصدران الأساسيان اللذان استند إليهما سمير غريب في كتاب ألّفه عنه.

مؤخّراً، أُقيمت عدّة معارض تستعيد تجربة الفنان. وفي غاليري "آرت توكس" بالقاهرة، ينطلق عند السابعة من مساء بعد غدٍ الثلاثاء معرض استعاديٌّ آخر بعنوان "سمير رافع: بلا رقابة"، ويتواصل حتى الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.

حكم التطلُّع إلى الفن والترحال المراحلَ المبكرة من تجربة رافع، فترك مصر وهو في الثامنة والعشرين من عمره، ولم يعد إليها إلّا لمدّة شهر واحد في صيف عام 1964. كان سفره بنيّة دراسة الدكتوراه في تاريخ الفن في السوربون، وما إن وصل باريس حتى ترك كل شيء خلفه وقرّر أن يواصل العيش فيها. لكنّه قضى عدّة أعوام في الجزائر التي سافر إليها من باريس عام 1964، وسُجن فيها ولم يخرج منها إلّا مريضاً ومحطّماً نفسياً وجسدياً.

فرض رافع على نفسه المنفى، فلم يعد من سجنه إلى القاهرة، بل يظهر أنه بتر فكرة العودة واجتثّها من جذورها، ليصبح هذا الانقطاع عن مصر وحدة ويأساً وحنيناً ظهر في عالم بصري مثقل بالألم، ومحمّل بمقتبسات من طفولته المصرية وبإشارات ورموز من الجداريات المصرية والنوبية القديمة، وانشغل بمقاربة مواضيع الأسرة والقرابة والحرية.

ولكن بالنسبة إلى بيان المعرض، فإن رافع في سنواته الأخيرة "لم يعد ينتمي إلى مصر ولا إلى فرنسا، وأصبحت قدرته (أو بالأحرى عدم قدرته) على التغلّب على العقبات موضوع عمله، وهو ما يفسّر الجانب الأكثر تشاؤماً والبعد الجنسي المظلم فيها".

ينقسم عمل رافع، الذي يُمكن وصفه بالسريالية الشعبية، إلى فترتَين: أعمال أنجزها قبل مغادرة مصر وحتى عام 1954، وأُخرى أنجزها بعد مغادرتها، حيث يتجاوز إنتاجه الغزير آلاف اللوحات باستخدام الوسائط المختلفة، إلى جانب منحوتات وأعمال مفقودة، ورسومات، وكتاب كرّاسات الرسم وكذلك أعمال من المنسوجات.

غالبًا ما تحتوي لوحات رافع على حيوانات: الأسود والخيول والكلاب والذئاب، وهذه على الخصوص أصبحت رمزاً رئيسياً في عمله، وقد بدأت هذه الحيوانات تظهر بقوّة على هذا الشكل بعد تجربة السجن في الجزائر، وما لقيه في المعتقل. أمّا قصة اعتقاله، فتعود إلى الصداقة التي جمعته بأحمد بن بلّة، وعبد القادر بلحاج، ومولود قاسم، وبعد أن انتصرت الثورة في الجزائر، سافر إليها ليصبح ضحية خصومات سياسية بين الثوّار أنفسهم، بعد انقلاب بومدين على بن بلّة. فعاد إلى القاهرة، لتبدأ الأجهزة الأمنية في بلاده بملاحقته والتضييق عليه، فيعود بصعوبة إلى الجزائر، وفيها يُتّهَم بالتآمر لتهريب بن بلّة، فيوضَع في السجن، وبعد خروجه جرى ترحيله من الجزائر، ولم يُسمَح له بأخذ لوحاته وممتلكاته، حسبما جاء في كتاب "الهجرة المستحيلة" لسمير غريب.

لم يتغلّب رافع أبداً على آثار المرض وذكريات هذه الفترة، وبدا كأنَّ هذه الحيوانات تعيش في رأسه وروحه معظم الوقت، أو أنّها خرجت من السجن معه، ويمكننا القول إن رافع عاش حياةً متعدّدة الأبعاد والأوجه، بدأت بعلاقته بحركة السرياليين في مصر، وحتى في هذه كان في سرياليته غريباً عنهم، وفي فرنسا غلب على أعماله الحزن والقلق والاغتراب، أما بعد السجن فقد بدا كما لو أنه سَجن نفسه في أقفاص وهميّة ظل يحارب فيها ذاكرته ومخاوفه، وهذا ما يُرى بوضوح في أعماله الأخيرة.

المساهمون