"الصعيد في بوح نسائه": مفتاح الرجولة القاتلة

11 سبتمبر 2018
نساء في قرية مصرية، تصوير: خالد الدسوقي)
+ الخط -

قد لا تبدو هناك صلةٌ بين العنف الطائفي في مصر وبين عمل الكاتبة المصرية سلمى أنور "الصعيد في بوح نسائه"، الصادر عن "دار بتانة". غير أن المرويات الشفاهية التي يتضمّنها الكتاب، وتسجّلها أنور بمزيج من فصحاها وعامية مصادرها في نص كلامهم لها، تضيء جوانبَ أخفى وأعمق من عقلية الجنوب، آخر معاقل "الرجولة" في المخيال الجمعي.

والرجولة في الصعيد لا تقتصر على قمع النساء أو تقييد حرّياتهنّ، ما يُمَارَس بدرجات وأشكال مختلفة بطول وعرض البلاد من أمور مثل الختان، والزواج المبكر، والحرمان من التعليم، والمنع من العمل، والعقاب عند عدم إنجاب ذكر، بل تمتد إلى الإجرام الممنهج في سياق ثأري يسيطر على المجتمع ككل.

يمكن القول إن أنور التي اضطلعت بهذا البحث الأنثروبولوجي الحر على مدى سنتين (نشرت خلالهما أغلب فصول الكتاب في موقع "مصريات" النسوي) تسعى إلى تقديم الصوت الآخر، أو نصف الغائب من المعادلة في واقع الصعيد الذي نادراً ما يُعامل بدقة أو جدّية في الصحافة والإعلام رغم رواجه كثيمة أو لون ثقافي خاص. وهي وإن كان أداؤها الأدبي غير لامع، تتفادى فخ التسطيح وترفض الأدلجة النسوية، فلا تفرض على الحكايات مساراً مجرّداً من خارج واقعها.

ورغم أن مصادر سلمى أنور لا ينقضن المنظومة القيمية السائدة في كلامهن، فهن يكتفين بالاعتراض على تأويل الرجال لها أو الشكوى من الأزمات المترتبة عليها. قد يكون هذا الصوت، كما تقول الكاتبة، "مفتاحاً لفهم الطبقات الأعمق من وعي أبناء الصعيد الذي يظل مجتمعاً مغلقاً […] وهذا الفهم قد يكون خطوة على طريق التنوير وإحداث تغيير اجتماعي وثقافي حقيقي".

خلال أربع وعشرين حكاية ترويها أربع وعشرون امرأة من أسيوط وأسوان فضلاً عن المنيا حيث اعتُقل العشرات إثر نوبة جديدة من العنف الطائفي والاعتداء على بيوت مواطنين مصريين أقباط في قرية تُدعَى دمشاو هاشم قبل أيام، تحكي كل منهن للكاتبة عن نفسها وعن نساء أخريات. وفي كلامهن، لا تبدو الطائفية مستغربة أو بعيدة عن منطق الحياة وسلوك الأحياء.

بلهجتها الصعيدية، وعن واقعة خطف حدثت في قرية مجاورة لقريتها، تقول ورد - وهو أحد الأسماء المستعارة لمصادر لا تُحدّد أماكنهن حفاظاً على سلامتهنّ - "كيف يخطفوها من على خشم باب البيت؟! ده مصيبة كبيرة وعار عى شنابهم.. أفكر (أتذكر) أياميها كان رجالة قبيلتها والكل كليلة في بلدهم ما بيناموش، وكانوا واقفين ليل نهار بالرشاش داير ما يدور.. ولما ما ظهرش أتر للبت، راحوا هجموا عالجبل، وفي الآخر البت رجعتلهم بس بكيف اللي كان خاطفها! [...] ناسها بعد ما رجعوا راحوا خطفوا قصادها واحدة من بيت اللي كان خاطفها! عشان بس يقدروا يقيموا راسهم في البلد، ولا كانوا يعيشوا متحيين (محنيي الرؤوس) كيه الحريم! أصل الراجل ما تكسروش غير البت وميرفعش راسه غير سترة البت!".

تتعدّد الحكايات وتتقاطع حالات بطلاتها، من محروسة يتيمة الأم التي تدفعها "العنوسة" للزواج من "متهبل" يسلبه المرض العقلي قدرته الجنسية فيسعى أبوه إلى مضاجعتها إلى مهجة جميلة القرية التي تعيش مع جارها الفقير بدءا من المرحلة الإعدادية قصة أشبه بـ "روميو وجولييت" حيث تُجبر على الزواج من ابن عمها السكير الحشاش الذي يضربها بعد أن يسافر حبيبها مضطراً ليعمل في السعودية.

يزخر القسم الأول من الكتاب بقصص ميلودرامية من الحياة المعيشة تتداخل فيها سلطة الأعراف والتقاليد بتَجَبُّر الرجال وقسوة الناس عامة. تقول إحداهن: "والله يا بتي الباين معاكي حق.. القلوب هنا قاسية.. واللي يوقع عليه السلامة!" هكذا تتبلور صورة مركبة ومسلية للمرأة الصعيدية. وهي تسلية تكتسب نبرة أخرى ومذاقاً أقرب إلى قصص الرعب وفانتازيا ألف ليلة في القسم الثاني.

البطلات هنا أكبر سناً والحكايات تدور حول ما وراء الواقع من سحر وعَمَل ومَرَدَة وجان. تحكي الجدة بخيتة مثلاً عما يسمى "المشاهرة": "لو كانت البت مختونة ودخلت عليها واحدة مش طاهرة، يعني حايضة، أو لابسة مصاغ يبقى البت المختونة عمرها ما حتتجوز، ولو حصل واتجوزت عمرها ما تخلف! دي اسمها مشاهرة.. نقول البت "مشوهرة".. الحالة التانية لو مَرَة بترضع ودخلت عليها واحدة جاية من السوق وشافت في السوق سمك.. أو دخلت عليها واحدة معدية من شرق البحر (النيل) لغربه…تحصل المشاهرة واللبن يقطع من شطرها [ثديها]!".

لعل أحد أقوى جوانب هذا الكتاب - وما يدفع إلى قراءته على خلفية أحداث المنيا الأخيرة، واستقراء الطائفية الصعيدية ليس في ضوء معتقدات الناس ولكن كشكل من أشكال القبلية الذكورية - هو الحضور القوي وغير المصطنع للمكوّن المسيحي سواء بين شخصيات الكتاب أو في الثقافة المحيطة.

تروي أم ملاك، وهي مسيحية، بمزيج من الدهشة والتسليم كيف أن بعض المسلمين يتدللون على العذراء فتدللهم أكثر مما تفعل مع المسيحيين.. من هنا تبدأ قصة أخرى، قصة إيجابية في مقابل قصص العدوان السلبية، وقصة نسائية قد تكون مفتاح علاج الرجولة القاتلة.

المساهمون